الاثنين، 18 يوليو 2011

حوار مع الفيلسوف سليم دولــة: الجنرال الفارّ هرب ببعض من تونسيّتي !



أجرى الحوار : شكري الباصومي

تكلّم حين صمت أغلب المثقّفين
..
«لا رئيس لي سوى رأسي»!... 


«قرطاج يا كذيبة جليد الثور...

دفع ثمن الكلام دما وحرقا وإيقافا...

حدثت الثورة، وكان فتيانها من الذين راهن عليهم سليم دولة الفيلسوف والشاعر الذي طالما تساءل أيجدوى للكتابة وأي مزية للفلسفة إذا لم تكن عملا انقلابيا يغيّر السائد ليصبح بائدا؟

كانت نصوصه تؤشر لشيء سيحدث... 

الفتيان الذين كان متهما بإفسادهم أثمر جهدهم ثورة..

واللغة صارت بين يديه طينا يشكّله ويثوّره..

للرجل رؤية ثاقبة فقد توقّع الثورة مثلما توقّع سقوط الغنوشي ونحن بصدد إنجاز الجزء الأول من الحديث حيث وصفه بـ«الزلوق الأول»..

وفي هذا الحديث الذي أردناه غير عادي اتجهنا مباشرة الى استنطاق نصوص الرجل في حوارات فارقة وللفيلسوف الشاعر وأيضا من بعض كتبه مثل «الجراحات والمدارات» و«ديلانو شقيق الورد» و«السلوان»..

النصوص استحالت أسئلة بدأت من الثورة وتداخل فيها الجانب الذاتي بالموضوعي..

تحدث سليم دولة الذي خرج عن صمته ليكون شاهدا عن «الرقّادين في الخط» و«الدوارين في الحلة» وعن أخيه الذي استشهد برصاص وطني ذات يوم خبز وعن تونس التي «تقصم ظهر الجبارين».

«
نزيل الديار التونسية» كما يلقب نفسه تحدث عن شروط الغربة في هذا الحديث يرافقنا ابن خلدون وابن حزم وطقوس الحداد التي لم يقم بها الشاعر ولا الشعب التونسي الذي «لم يشيع جثمان الميّت فيه..».

امتلأت «سلال تهم» الرجل الذي طالب بن علي ذات يوم الخروج من تاريخ تونس من الباب الكبير كما دخلها من الباب الكبير».

ماذا يعني أن تكون كاتبا حرّا سوى أن تستعد لجمّاع الخسارات لقد ربح الفيلسوف كل خساراته بينما لم يدرك كثير من الخلق أنهم خسروا كل ما ربحوه!..

من الرصاص الوطني المفرط في وطنيته كانت الانطلاقة:


********************

جاء في إهداء كتاب السلوان (2008) الطبعة الجديدة «الاهداء الى سامي الأزهر دولة الذي رحل ذات يوم خبز برصاص وطني مفرط في وطنيته وترك في القلب حُرقة.. لئلا يفعلها أبناء الوطن بأبناء الوطن مرّة أخرى»

فعلوها مرّة أخرى..؟


إن فعل الكتابة في الفرنسية كما في العربية يحيلنا الى فعل النسيج والتطريز ومن هنا نتحدث عن نسيج النص وفقا للدلالة التقنية للكلمة بمعنى ترك أثر ملموس يترجم ماديا المحسوس به وجدانيا وانفعاليا.
الكتابة الأدبية بهذا المعنى «طرّازة أوجاع» فالذي يكتب إنما يسعى الى أن يُشفى وليس صدفة أن يقترن الشعر بالطب وكتابة السير الذاتية بالمطارحة مع الذاكرة لاستحضار مسرّاتها وأوجاعها. وتعتبر إهداءات الكتب أدبا قائما بذاته إذ تقوم مقام العتبة وهي بمثابة الرسالة التي يريد الكاتب أن تظلّ حاضرة بل كلية الحضور لدى القارئ وهو يتصفح متن الكتاب.
إهداء كتاب «السلوان» إنما هو بالأساس تنصيص على وجع يتمثل في قتل أخي سامي الأزهر دولة بالرصاص الوطني والمفرط في وطنيته أثناء أحداث الخبز التي استشهد فيها أكثر من شاب تونسي منهم الفاضل ساسي الذي لا يمكن أن يُنسى من ذاكرتي شخصا ونصّا إذ هو شاعر لم يستكمل لا مشروعه الشعوري بالحرية في الوطن ولا ديوانه الشعري.
إنني لم أقم بطقوس حدادي على أخي ذلك أن السلطة السياسية فرضت على الأهل إذ لم أكن حاضرا في قصر قفصة ورغم احتجاجات أهالي قصر قفصة فقد تمّ دفنه ليلا.
هذه الواقعة لم أشف منها الى الآن، ومعلوم أن من شروط الشفاء النفسية والعاطفية القيام بما يسمّى طقوس الحداد ليدرك الحي أن المأسوف على موته قد مات فعلا، والى حدّ الآن رغم السنوات الطوال فإن صورة سامي أخي كلية الحضور وأكثر من ذلك حين الكتابة وبالتحديد كتاب «السلوان» لا أعرف لماذا تنطّ صورته أمامي بين الحين والآخر فأشفق على نفسي وعلى شباب تونس شباب الوطن الذي تبذّر حياته برصاص كان يمكن أن يُصرف في الدفاع عن حياتهم وحريتهم وجمالية وجودهم في الوجود، لا أن تُقصف أعمارهم بدم بارد وأعصاب هادئة كما لو أننا استوردنا هذا الشباب من وراء البحر أو الغيوم.
ولئلا يذهب دم الشهداء هدرا نبّهت الى ضرورة ألا يفعلها أبناء الوطن بأبناء الوطن مرّة أخرى وكان ذلك التنبيه موجعا لكل من اطلع على الكتاب منذ سنة 2008.
وها هم أبناء الوطن كما لاحظت أنت قد فعلوها وبالرصاص الحي لقتل أبناء الوطن مرّة أخرى..
لا أعرف لماذا تستحضرني عبارة ابن خلدون وهو يتحدث عن المستقبل حين يقول: «إن الآتي أشبه بالحاضر شبه الماء بالماء».
لقد تصرّفت في العبارة كما يتصرّف بي الألم والحزن وحتى القرف والبكاء والعويل الطويل من سؤالك الدامي. أردت وفق عبارة ابن حزم بذلك الاهداء الى روح شهداء الخبز تماما كما الى روح صدام حسين أن «أؤرّخ للرّذيلة» عسى أن تستيقظ بذور الفضيلة في جغرافيا الوطن بعد هذه السنوات الطوال من التصحّر العاطفي وسوء التفاهم مع جغرافيا البلاد، فأن نكتب هو أن نحتج على أقل تقدير ضد امتهان كرامة الكائن البشري والذود عن حرية من يجمعنا به على أقل تقدير عقد التراب.. التراب التونسي الذي منه أتينا وإليه نعود.

رغم الألم.. نجد في آخر كتاب «السلوان»: «أيها المحتفلون بسفك دمي توغلوا في الاحتفال فأنا الباقي وأنتم الى زوال..» ها قد زالوا...؟

الأمر يتعلق مرة أخرى بما يمكن أن نطلق عليه أخلاقية الكتابة وأقصد الشروط النفسية والجمالية للكتابة المنسوبة للإبداع.. فما قيمة المكتوب الابداعي إذا لم يكن دافعا لرفع معنويات الكاتب أساسا لئلا يسقط في ابتذال نفسه وإذا لم يشحذ ـ وإن غير قصد ـ معنويات قارئة هذا الكائن المجهول إذ يمكن لكلمة يقولها الكاتب أو يكتبها وحين كتابتها لا يدرك ثقلها وطاقتها على التأثير ولذلك أفضل أن اكتب لقارئ مجهول قد يصادقك بعد دهور فبقدر ما تكون الكتابة لحظية وليدة زمانها ومكانها تسمى الاشياء والاهواء والانفعالات من حب وغضب وضغينة واحتقار متبادل وتفاؤل وتشاؤم واندفاع وتردد. باعتبارها ترجمان اشواق مأمولة أو مغدورة، بقدر ما تكون ملتحمة بلحم البشر والارض والوطن تكون كتابة صادقة عابرة للدهور.
اعتبر ان اغلب كتاباتي الشعرية والادبية انما هي شحذ لارادتي الشخصية ومحاورة اشكال هشاشاتي، أنا كائن هش في مجال الحب والعاطفة وجداني انفعالي بكّاء آخر الليل كما كتبت ذلك صادقا مع نفسي، فلا يغلبني الا الاطفال والطيور والقطط والاصدقاء ومن أحب أما وان تعلق الامر بالدفاع عن الشأن العام والامر العمومي فإنني لا أهادن ولا ألين دون بطولة ولا ادعاء فتح قارة سادسة...
فأن تخاطب اصحاب السلطان الذين اعتدوا عليك جسديا ومعنويا واستعملوا كل ادواتهم الرسمية كتخريب حياتك الاجتماعية والعاطفية متحديا اياهم، محيلا اياهم الى الزوال فهذا يعني أنك لم تهزم لا في ساحة الحب ولا في ساحة الحرب وأن احتمال المواجهة يظل دائما ممكنا اذ لا معنى للانتصار في الحرب الا عندما يعترف المهزوم بكل وضوح لمن انتصر عليه انه مهزوم، وبهذا المعنى أنا لم أهزم أمام الذين أحلتهم الى الزوال....
كم من مرة اعترضني أكثر من واحد من أولئك الخلائق هم عينهم اياهم الذين خربوا حياتي فما يكون في الواحد منهم الا أن يطأطئ رأسه ذليلا حقيرا فأما ان يتلافاك أو يتملقك كأن لم يكن شيئا بينكما ويمشط معجمه المدحي ويقول لك حرفيا: «والله انت الراجل»! أو «راني كنت غالط فيك»!
لا أعرف من أي طينة قدّت هذه المسماة «نفسي» اذ لا أصمد أمام من يطلب العفو صادقا.. أما أولئك الذين يحملون اعتذاراتهم بشكل مكرور ومكذوب فإنهم لا يزدادون في عيني الا صغارا وحقارا.

هل يمكن في هذا الاطار ان نستحضر ما جاء في كتاب «السلوان» من كتاب «الروض المعطار» للرحالة الحميري قوله: «اذا اراد الله ان يقصم ظهر أحد الجبارين ارسله الى تونس»؟

اذكر اني عثرت على هذه الجملة لما كنت طالبا اثناء قراءتي لكتاب «الروض المعطار» فبقيت راسخة في ذهني.
هذه الجملة أخرجتها عن سياقها التاريخي وعن تنصيصها الجغرافي لما تحمله من شحنة عاطفية ازاء تونس خاصة في اللحظات التي يمكن ان يدب فيها اليأس واقصد يأسي الخاص من جغرافيا البلاد أرضا وبشرا فأردد هذه «اللازمة» حتى وأنا امشي بيني وبين نفسي كأن أقول لا يمكن لأي سلطة سياسية استبدادية ان تقصم ظهري وانا انتمي الى أرض ووطن ومنتظم حضاري ورد في شأنه انه «قاصم ظهور الجبارين».
فلا أعرف بالتحديد وقعها عند الآخرين لكن الأكيد ان من يطلع عليها يذهل لعمقها حتى أنه هناك من شكك في وجودها أصلا متهما اياي بأني أنا من اختلقها...
لكن يكفي ان تكتبها على محرك البحث لتجدها منسوبة الى صاحبها، وكم استغربت حين اتصل بي استاذ جامعي درسني منذ سنوات بعد صدور كتاب «الجراحات والمدارات» ليقول لي متسائلا «هل كل الكتب التي استشهدت بها موجودة فعلا؟!» أم هي من اختلاقاتك؟!!
فأجبته مازحا «ما أشد ضيقي بهؤلاء الدكاترة... واصطحبته معي الى شارع فرحات حشاد حيث كنت أقيم ووضعته وجها لوجه مع مكتبتي: ولك ان تدقق وتحقق...

رغم افتخارك بتونس الوطن الذي يقصم ظهور الجبابرة الا أنك تورد في «ديلانو شقيق الورد» انك «نزيل الديار التونسية» وكأنها سجن كبير؟ !

ـسؤال خطير وموجع...
لقد كتبت ذلك فعلا في مفتتح كتاب «ديلانو شقيق الورد» وعن وعي وقصد وارادة في المنازلة منازلة أولئك الذين يضطهدون التونسيين باسم تونس و«الولاء لتونس» و«الشخصية التونسية» و«المواطنة التونسية» وتونس بلد الفرح الدائم» و«افرح انك في تونس» الى نهاية لازمة.
المديح المكذوب لما عليه الحال رغم كل اشكال الأوحال الواحلة اصلا والمغطاة بالخطابات والخطب الرسمية والتي تشيد كلها بألا قهر بعد اليوم وبفضائل صانع التغيير و«حامي الحمى والدين» والعطوف على كل التونسيين وباعث قناة 21!...
اردت ان أقول انني لا أشعر بالانتماء الى وطن مكذوب عليه سياسة وثقافة وكفاءة عسكرية اذ لا نملك حتى كفاءة الكذب على انفسنا ناهيك عن سوانا، اذ للكذب شروط منها قوة الذاكرة كما ورد الأمر في المتون القديمة «اذا كنت كذوبا فكن ذكورا» بمعنى قوي الذاكرة
لقد كتبت مقالا في «القدس العربي» اثناء احالتي على البطالة القسرية وعنوانه «المواطنة بالانتساب والمواطنة بالاكتساب» وميزت بين «الصحن التونسي» وان تكون تونسيا مؤكدا على انه لا يكفي ان تولد في تونس مسقط أرجلك ورأسك لتكون تونسيا وانما المواطنة تكتسب بناء على ما يمكن تسميته بجدلية الحق والواجب....
وما الذي يمكن ان يشعر به ويحس به بطال في وطنه وفقير أو معوز لا مال ولا سكن ولا صديق عند الضيق غير الاشمئزاز من جغرافيا المكان، اذ كما ورد في الاوراق القديمة، «الفقر في الوطن غربة والمال في الغربة وطن...»
أو كما كان يردد ميلتون صاحب «الجنة المفقودة» و«الجنة المستعادة»: «وطننا اين نكون في احسن حال» وأنا كنت ولا أزال على أسوإ حال أقصد الناحية المادية أما من جهة المعنويات فمعنوياتي مرتفعة دائما الى حد التماسك بل التصدع المخيف.
عبارة «نزيل الديار التونسية» يعني انني لست مواطنا وان مقامي كما مقام أغلب التونسيين مقام نزلاء السجون وهو ما تكشفنا عليه فعلا بعد انهيار معمار التجمع الدستوري «الديمقراطي» المكذوب اذ لم يكن مقامنا جميعا سوى مقام الادوات لمراكمة الثروات لدى أصحاب السلطان و«الشوكة» و«اليد القاهرة» وفق المعجم الخلدوني.
ويعنيني ان أدون في هذا السياق انه اذا كان الفرنسيون يرددون أنهم «ديكارتيون» دون أن يكون الواحد منهم قد قرأ ديكارت وان الألمان «كانطيون» دون ان يكون الواحد منهم قد قرأ الفيلسوف «كانط» فإنه بامكاني القول ان التونسيين انما هم خلدونيون دون ان يكونوا قرأوا ابن خلدون حين يشخص صاحب المقدمة نفسية الفاعلين الاجتماعيين معلنا: «ان السعادة والنجاح الى جانب أهل الخضوع والتملق» غير ان ابن خلدون اسقط من مقدمته العبارة العزيزة علي: «الى حين»!
اذا لم يكن الامر كذلك فكيف نفسر الانقلاب السحري العجائبي لمن كانوا بالأمس القريب في فيالق واحتياطي المتملقين والانتهازيين للسلطة السياسية القائمة واذا بهم هم عينهم اياهم يقدمون انفسهم على أنهم ثوريون لا بل «قيفاريون» (نسبة الى شي غيفارا) مستعملين في شأن السلطة التي تملقوها نعت «النظام البائد».
ومن علامات استمرارية هذا النظام الاستبدادي وجودهم هم عينهم اياهم مما يعني ان الشعب التونسي لم يقم بطقوس حداده أي انه لم يشيع جثمان الميت فيه ولا يمكن استكمال شروط الثورة الا بتدشين طقوس الحداد على الميت فينا وهنا في اقرب الآجال من أجل تغيير البوصلة في الوطن واذا لم يتم ذلك على مستوى الوسائل والغايات فإن تونس ستشهد أخطر الانكسارات ونستيقظ جميعا كما لو أننا نعيش حلما ليلة صيف رغم ما اكتنفها من دم ودموع.
ان قوة شعبنا انما تكمن في هشاشته التي هي عنوان صلابته لا يقبل الذل وان كان يلين لجلاده احيانا وذلك لقلة الحيلة .


هل لكثرة «الدوارين في الحلة» كما تقول اخترت الصمت لتكون شاهدا على الحرباء في كرنفالها؟

ـ من أجمل تعريفات الصمت: «الانقطاع عن الكلام بالرغم من المقدرة عليه»...
اني أملك احتياطي حزن وألم واحساس بالمرارة من متواليات الاعتداء علي جسديا ومعنويا وحتى بنكيا...
وقبل الحدث النوفمبري بسبب كتاباتي وتعرضي الى القضاء والاعتداء الجسدي من قبل أكثر من جهة.
لقد تمت محاولة لاغتيالي ذات سنة بتهمة الكفر المكذوبة اصلا وتم التشهير بي على اني مرتد والردة حكمها معروف وهي حوادث مدونة في الصحافة التونسية وكان وراء ما حدث لي بعض المنتسبين للتيارات الدينية تماما.
عاقبتني أكثر من سلطة، أكثر من مرة غير انه حينما انقضّ الحدث النوفمبري والكماشة النوفمبرية على رموز الحركة الدينية والزج بهم في السجون لم اكتب في شأنهم حرفا واحدا لأنه ليس من اخلاقي ان أجهز على أحد بكل انتهازية في حالة ضعف ووهن يتعذر معها الدفاع عن نفسه وهو الموقف ذاته الذي اتخذته من التيار الديني هو الذي أملى علي اليوم عدم الكلام والتشهير بما يسمى بـ«النظام البائد».

أوردت في «ديلانو شقيق الورد» ما تتهم به... فأنت المجنون... الكافر... المارق المرتد... ممرض الطلبة... «حمار نيتشه» مفسد التلاميذ... عاشق المتصوفة مروج ماركس... لقيط الجنوب ناصر الشعراء أعداء الانبياء... صديق المراهقين... تهم تضاف الى تهمة «الردة»، ماذا بقي لديك؟

إمتلأت سلال تهمي دون ان تستوعب متتاليات التهم الاخرى كما أني عصبي مثلا ولا ألتزم البرنامج البيداغوجي وتحويل حصة الفلسفة الى حصة ترجمة...
كل هذه التهم كانت دائما تصدر من أدوات وشاية أو «قوادة» من خارج المعهد ولاعتبارات متعددة حتى من بعض المنتسبين لتدريس الفلسفة والمنتسبات من ذلك اني لم ادرس في حياتي دروسا خصوصية واعتبر ان ذلك من شأنه ان يكسر علاقة الصداقة بيني وبين تلامذتي واستحضر دائما في ذهني عبارة ثمينة لميشلاي يثمن فيها علاقة التدريس بالصداقة اذ يقول حرفيا: «التربية انما هي بالأساس صداقة أو لا تكون» فثمة من يعتبرني حين أضيف دروس تدارك مجانا قد أفسدت عليه «خبزته» واذكر ان أحد مديري المعاهد منع دخولي مع التلاميذ أكثر من مرة للقيام بهذه الدروس أصلا مدعيا اني استعمل هذه الدروس لتحريض التلاميذ على العصيان متذرعا بأنه لا يجوز لي قانونيا ان ادرس خارج أوقات الدرس الرسمية.
اما في ما يخص افساد التلاميذ اذكر ان ولية اتتني مخاطبة بكل حدة: «لماذا افسدت علي ابنتي الوحيدة اذ منذ أن شرعت في دراسة الفلسفة لم تعد تمتثل لأوامري ودائما حين اطلب منها ان تعينني اجدها قد دست رأسها في كتاب من كتب الفلسفة وفي نومها تهذي بكلام غريب.
أنا لا أريد هذه الباكالوريا! أريد سلامة عقل ابنتي»!
وبعد هذه المشادة الناعمة وبعد نجاح ابنتها أصبحت الصديق الاثير لدى العائلة الى اليوم، وهذه الحادثة جدت قبل الحدث النوفمبري بمعهد الوردية بالعاصمة الذي أكن له احتياطيا لا ينضب من الحنين وغالبا ما كنت أمازح تلامذتي: «انتم في حصة حب أليست الفلسفة حب الحكمة؟! فلنختلف دون أن نوغل في الخلاف...
ان تلامذتي هم كنزي الثمين وكلما ربحت من غنائم يكن غنمها في الوطن فإليهم جميعا حيث ما كانوا تحية فلسفية تليق بمقامهم.. وأنا سعيد بفتيان الثورة وفتياتها لسبب نرجسي محض:
فقد برهنوا لي وأنا في كهولتي أنني كنت على حد آنذاك غالبا ما كنت أصاب باليأس من كل شيء الا من أحقاد سقراط وحفيداته.
ما قيمة الفلسفة اذا لم تكن محرضة على التفكير الحر وبصوت عال بعيدا عن الأداء الغوغائي في السلوك. كم نحن في حاجة الى شباب يفكرون ولا يجترون الدروس كما لو أنها من الواجبات الثقيلة فبمجرد ان يخرجوا من المعاهد والكليات ينسون للتوّ ما كانوا قد درسوه...
وكل التهم الموجهة اليّ يمكن دحضها باستحضار حكمة للحكيم الأندلسي أطلقها آخر أيام حياته «ليس أسقط مقام من مقام من لا عدوّ له».

في حديث مع الزميل والصديق فوزي عزالدين نصحت بن علي بعدم ترشيح نفسه لانتخابات 2004 ونشر ذلك بجريدة مشرقية؟ وطلبت منه الخروج من تاريخ تونس من الباب الكبير كما دخله من الباب الكبير؟
لو لم يكن من حاورني حيا (فوزي عزالدين) لما كنت لأروي هذه الحادثة. لقد صادف أن أجرى معي الصديق والصحفي الشاب والجسور فوزي عزالدين حوارا مطوّلا وجهت فعلا رسالة للسيد الرئيس التونسي «حامي الحمى والدين» والذي أفرط المنتسبون الى الفن في تونس في مناشدته للترشح الى الانتخابات التونسية 2014 ناشدته بكل أدب على أساس أنه الرئيس وأنا المرؤوس وفق الصياغة الحرفية التالية: «أطلب من السيد الرئيس الخروج من تاريخ تونس من الباب الكبير كما دخله من الباب الكبير» ولا أعرف لماذا ستحضرني هذه العبارة التي قالها الزعيم بورقيبة في شأن الزعيم جمال عبد الناصر: «لقد خسر عبد الناصر كل شيء ولم يربح سوى موته»!
لا أعرف مسار هذا الحوار والذي أنا متأكد منه انه نشر اذ بعد مدة ليست بالطويلة تفرّد بي بعض الخلق في شارع قرطاج وعددهم أربعة غدرا ولم يفرطوا في ضربي. والجملة التي أذكرها هي التالية وهم يضربونني: «اش كونك أنت يا سارح باش تطلب من الرئيس الخروج من تاريخ تونس؟!!»
وكان تبادل الشتائم بيني وبينهم من ذلك أنهم شتموا أمي والمثقفين فلم أجد غير إجابة واحدة: «أنا الباقي وأنتم وحذاؤكم العسكري الى زوال».
لا أريد التشفي من أحد ذلك ان التشفي انما يعود لذاكرة لم تُشف منه وأنا شفيت منه لكن لم أشف من الحربائيين منهم وبالتنصيص لم أشف من سلالتهم.
أما لماذا اعتبرت الجنرال الفار قد دخل التاريخ من الباب الكبير انه حين الحدث النوفمبري لم تسلْ ولو قطرة دم واحدة وقد كنت نبهت في ذلك الحوار عيبه إياه انه قد أحدث ثغرة في تاريخ العقل السياسي العربي الاسلامي اذ ان تاريخنا العربي يزخر بتاريخ الدين أطاحوا بخصومهم السياسي، فسلموا أعينهم وفي أحسن الاحيان دعوا بالجملة المشؤومة: «ان ائتو بالنطع والسيف» دلالة على اعدام من تم الاطاحة بهم سياسيا.
ان كتاب «المحن» لأبي العرب تماما كما كتاب «البيان المغرب» للمراكشي لمن الوثائق التي يجب على فتيان الثورة التونسية الاطلاع عليها ليدركوا مدى دموية تاريخنا العربي الاسلامي على مستوى السجل السياسي.
لهذا الأمر بالذات ثمّنتُ بكثير من الحذر الحدث النوفمبري وهو مدوّن بالصحف التونسية من ذلك لقد تم استعمال اسمي الشخصي في الصحافة ذات سنة وبالبنط العريض: «هؤلاء قاوموا الحكومة القديمة الى ان سقطت (والمقصود نظام بورقيبة).
أما الخروج من تاريخ تونس من الباب الكبير فأردت للتونسيين ان يكونوا انموذجا للاقتداء وليس للاتقاء.
كان المحلوم به لدي ان يسجل الرئيس خطابا يعلن فيه منذ 2004 انه وتعهدا بما كان قد أعلن منذ الحدث النوفمبري انه يلتزم بما وعد ويفسح الطريق لسواه لأنه حينها وحينها فقط يفتح الطريق للتدرب على الديمقراطية الوليدة وها هو يخرج من الباب الصغير. مما يجعل العقل التونسي مريضا مرة أخرى. ما الذي يبرر هذا الاحساس؟ لقد هرب السيد الجنرال الفار ببعض من تونسيتي!
كيف لجبان ولخائن للقسم العسكري ان يحكم شعبا طوال 23 سنة. وهي إدانة للشعب ولدكاترة الشعب لمن كتبوا من «خيرالدين الى زين العابدين» ولمن انشدوا «يا تونس ما ابنّك» ولمن كتبوا من شعراء تونس سنة 2004 متمنين الفوز في الانتخابات أنه لا مترشح سواه!

٭ في ديلانو شقيق الورد ورد ما يلي: «لن أحذف فاصلة واحدة كلف ذلك ما كلّف». حكايتك مع الرقابة؟

يقول جاك دريدا «إن تكتب كتابا انما هو تدخل في السياسة» سواء في نظام الموضة أو الطبخ او حول «الإله الكروي» يعني انك تتدخل في الأذواق...
يعني انه ما من سلطة سياسية في العالم منذ القديم الى الآن إلا وتراقب وتكافئ وتعاقب المتصرفين والمتصرفات في شأن التداول اللساني او اللوني او الكاليغرافي معنى ذلك ان تعلن انك «لن تتنازل عن فاصلة واحدة» إنما هو إعلان حرب بيان حرب ضد الماسكين بالشأن الثقافي لقد قال سيلين أرفض ان تحذف لي فاصلة واحدة!».
ومن أطراف أشكال الرقابة في تونس انه لا يحذف لك فاصل في مكتوبك انما يضاف اليك وهو ما كان يمارسه صاحب مجلة «الملاحظ» سابقا و«الملاحظ الجديد» لاحقا!
وحين تقديم كتابي «الجراحات والمدارات» اي ما كان يسمى الابداع القانوني انتظرت ما يزيد على 5 أشهر وحتى صدوره دفعت ثمنه من جسدي اذ تم الاعتداء عليّ في نهج «الڤطار» في تونس العاصمة والنهمة: «اكتب وزيد اكتب»!
مع الملاحظة انه تم مصادرة الكثير من الكتب منها «بيان النقابي الفصيح» و«نشيد الايام الستة» لشاعر اسمه أولاد أحمد ومجموعة قصصية (عباس يفقد الصواب) لقصاص اسمه حسن بن عثمان فترى ان الرقابة لا تكتسح مجالا معرفيا واحدا وانما تتسلح بجاهزية مطلقة لتجهز على المطلق الابداعي. في مقابل هذا النمط من الرقابة كان سوى هؤلاء الكتاب يتمتعون بكل أشكال الوجاهة والتقدير والتكريم حتى أن الذكاء العملي التسمية الأخرى للانتهازية جعلت احد المنافقين من الشعراء يكتب للزعيم الراحل بورقيبة مخاطبا نرجسيته الجغرافية انما المنستير مذكورة في الأحاديث النبوية الشريفة وها هو الآن وفي جريدة «الشروق» رأسا ودون حياء الشيوخ يمدح فضائل الثورة لا أظنها الا أنثى الثور كما ورد الأمر في «لسان العرب» أقول له ولمشتقاته «ما أقرب الآخرة وما أبعد الدنيا!».
ويحصل لي شرف تاريخي اني ارسلت «عدل تنفيذ» الى وزير ثقافة حقير اسمه يحيل على المنشار ذات سنة لمساءلته حول جائزة كتب قد تقدمت لها ولم أتسلمها بشهادة جريدة «الصباح» وأصرّ المنسي اسمه ملحقه الصحفي اني تسلمتها في حين اني كتبت وثيقة لعبد الحليم المسعودي بحضور عمر الغداسي ان يتسلمها نيابة عني لأن معالي وسمو ودولة وولاية ومعتمدية الوزير قد تأخر أكثر من نصف ساعة وأنا قلوق خاصة في انتظار مثل هؤلاء الاشناس والتي ترجمتها بالعامية «الزنوس».
وتم جدال في جريدة «المحرر» الباريسية هذا الأمر كله يمكن اعتباره تافها لكن الموجع ان هذا الوزير الذي اسمه يحيل على المنشار قد اصطفى لنفسه من احتياطي القوادين المكذوبين للقيام بمهمة واحدة هي تشويهي مقابل وعد ببيت من البيوتات مثل بيت الشعر أو أي شيء كهذا...
وقد أصدر أمرا للصحف الرسمية بعدم ذكر اسمي ان خيرا أو شرّا.
ياله من زائلة! يا له من زوائل!
هل ادركت لماذا ورد في السلوان «أيها المحتفلون بسفك دمي توغلوا في الاحتفال فأنا الباقي وأنتم الى زوال»!
وهو ما يبرر تماما بيان العصيان الكتابي في «ديلانو شقيق الورد: «لن أحذف فاصلة واحدة كلف ذلك ما كلّف».!
ان تكون كاتبا حرّا هو ان تستعد لجميع جُمّاع الخسارات وإني لسعيد جدّا لأني ربحت كل خساراتي بينما خسر الكثيرمن الخلق الثقافي كل ما توهموا أنهم ربحوا.
وأني على جاهزية تامة لمقاومة الحكومة القادمة إذا غدرت بالمحلوم به تونسيا.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More