الاثنين، 1 أغسطس 2011

مقال: النص، الوعي، الواقع: نحو نظريةٍ مقاصديةٍ تأويليةٍ... محمّد جمال باروت


1

في كتابه "عيال الله: أفكار جديدة في علاقة المسلم بنفسه وبالآخرين" يحلُّ المفكر الإسلامي محمد الطالبي إحدى أبرز إشكاليات العلاقة ما بين النص المقدّس ممثلاً هنا بالنصّ القرآني وبين المصلحة والواقع، حين يقول: "النصّ مقدّسٌ والتأويل حر"(1). يمكن إدراج هذا الفهم لإشكالية العلاقة ما بين التأويل والنص في فضاء نظريةٍ هيرمينوتيكية (تأويلية) للنص تتخطى حدود النظرية الفقهية البيانية كما تبلورت في التاريخ الفكروي الإسلامي، فالعلاقة مابين التأويل (الحر) وبين النص (المقدّس) تنبني هنا على ما يمكن تسميته بلغة رولان بارت بـ "ذاتيةً النصّ" أو"ذاتيّته النصيّة".
 تميّز هذه الذاتيّة النصيّة كل النصوص "العليا" إذا ما جاز التعبير وفي مقدمتها النصوص المقدّسة، وهو ما يفسّر ارتباط النظرية الهيرمونيتكية (التأويلية) تاريخياً بـ "تفسير النصوص المقدّسة". والمقصود هنا بالتفسير ليس المعنى الفقهي الكلاسيكي الذي يتبادر إلى الذهن والذي يقابل "التأويل" في ثنائيات الوعي القار بالنصّ القرآني بـ "المتشابه" و"المحكَم" أوبـ"الظاهر" و"الباطن" في النص القرآني، بقدر ما هو عمليةٌ أو صيرروةٌ قرائيةٌ تمضي من ظاهر النص إلى ما يجاوزه. ولقد رسّخت السنيّة الإسلامية في التاريخ الفكري الإسلامي مفهوماً "ظاهرياً" للنص يختزله إلى مستواه التركيبي وليس التحويلي والتوليدي الذي لا يمكن أن يظهر إلا في عملية القراءة التأويلية بقدر ما أنّ "المتشابه" القرآني قد أفسح المجال أمام طلاقة القراءة الهيرمونيتكية (التأويلية) التي تمّت بواسطة الوعي العِرفاني الأفلوطيني المحدَث، وشكّلت الإطار المعرفي لنشوء الكثرة الكاثرة من الفرق الإسلامية في التاريخ الإسلامي، إذ تكوّنت هذه الفرق جميعها في الفضاء الفسيح الذي يتيحه تأويل النص القرآني بحكم ثراء ذاتيّته النصيّة.
 لقد عبّر ذلك عن خصوبة الهيرمونيتيكا الإسلامية نفسها بقدر ما عبّر عن عمق الاحتمالية القرائية لها في عملية التأويل. ولقد كان من شأن ذلك أن يفضي إلى احتمال ثورةٍ لاهوتيةٍ إسلاميةٍ آلت بدورها إلى مدوناتٍ مؤسسيةٍ وطرائقية وطقسيةٍ مغلقةٍ أو ساكنةٍ، غير أن الصراع القرائي على النص وإنْ كانت مفاعيله أو بكلامٍ أوضح وظائفه سياسيةً- اجتماعيةً تتصل بإشكاليات السلطة والقوة، كشف عن مدى إمكانية ممارسة النص القرآني وجعله في صيرورةٍ إنتاجيةٍ مستمرةٍ تتخطى حدود الفهم الفقهي لظاهره، وهومايسميه بعض منظّري نظرية التلقي الحديثة بـ "صيرورة القراءة"(2). لكنّ نظريةً تأويليةً للنص القرآني تتجاوز ثنائية الفقهي الظاهري البياني للمحكم/ العرفاني الباطني للمتشابه ما تزال غائبةً وإن كانت هناك بعض الجهود الثمينة التي تعمل في هذا الاتجاه مستفيدةً من استثمار الفتوحات المنهجية الحديثة ما بعد البنيوية في تخطي المفهوم السكوني البنيوي للنص إلى المفهوم الديناميكي الحرَكي. ويمكن تكثيف هذه الجهود من زاوية علاقتها بقرائية النص القرآني أو بذاتيته النصية وفق مصطلح رولان بارت بأن النص القرآني(وينطبق ذلك عموماً على النصوص المقدّسة كلّها التي تتميز طبيعتها بشعريةٍ عليا على حدّ تعبير جون كوهن في كتابه عن الشعريةّ) كلام يصدر عن ذاتيته النصية التي تجعل منه في علاقة المرسل الإلهي- المتلقي البشري دائم الإنتاج لأنه مستحثُّ بشدةٍ، ودائم التخلّق لأنه هو في شأنٍ ظهوراً وبياناً، ومستمرٌ في الصيرورة لأنه متحرك، وقابلٌ لكلّ زمانٍ ومكانٍ، لأن فاعليته متولّدةٌ من ذاتيته النصيّة"(3). ووفق هذه المنطلقات يغدو النص في النظرية التأويلية الممكنة بمثابة اللغة عند دوسوسور مقابل الكلام الذي يقوم به الإنجاز اللغوي التأويلي أو القرائي التفاعلي، أو بمثابة الكفاية مقابل الإنجاز بمصطلحات تشومسكي في نظريته الوصفية والتحويلية للنحو. ويفتح هذا التمييز الباب أمام القول بالقراءة كعمليةٍ تحويليةٍ للنص المقروء الذي يقوم هنا على نوعٍ من الاقتصاد العلاميّ، فهولا يدرج على سطحه إلا ما يعتبره ضرورياً لاتسّاقه الخطي، ولذلك فهو يتميّز بنوعٍ من الديناميةّ التواصلية مع القارئ بحيث ينتظر من هذا الأخير المبادرة التأويلية الملائمة، ويسعى هو نفسه إلى استقطاب القارئ ودعوته على الانخراط في عام النص عبر طرائق خطابية وقولية وبلاغية تساعد القارىء في تحيين البنيات وتأويلها(4).
2
لقد حدث في تاريخنا الفكري الإسلامي أن تغلّب الفقهي على الهيرمونيتكي اللاهوتي أو التأويلي بالمعنى المحايث للنصوص المقدّسة، بل وقام نوع صلبٌ من الثنائية ما بينه وبين الفهم التأويلي.كان علم أصول الفقه يمثّل هنا أحد أهم إنتاجات الحضارة الإسلامية على المستوى العلومي أو الإبيستمولوجي من زاوية أنه يحكم بقواعده طريقة إنتاج الأحكام التفصيلية. وهذه الأحكام بنيت على علم أصولٍ لها هو علم أصول الفقه، وهو ما ميّزها عن القانون في الحضارات الأخرى ما قبل الحضارة الحديثة. ويترتب بموجب علم أصول الفقه على كل قاعدةٍ أصوليةٍ، فقهٌ أو حكم شرعي عملي بقدر ما يعني في طريقةٍ معاكسةٍ استنباط الأصول أو القواعد الإبيستمولوجية من الأحكام الفرعية، نظير استنباط الأصوليين الحنَفيين قواعدهم الأصولية من أحكام الإمام أبي حنيفة النعمان الذي لم يقم بتصنيف أصوله وتقعيدها على غرار ما قام به الإمام الشافعي.
 إن علم أصول الفقه يُعنى بموجب ذلك بإنتاج الأحكام الشرعية العملية دون غيرها من أحكام اعتقادية، ومن ثم فإن مجاله غير المجال الاعتقادي الكلامي اللصيق بالمجال التأويلي. فهذا هو أبو حامد الغزالي يقول في"المستصفَى" إنّ الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلّفين خاصةً، حتى لا يطلق اسم الفقيه على متكلّمٍ وفلسفيٍ ونحويٍ ومحدّث ومفسّرٍ، بل يختص بالعلماء بالأحكام الشرعية الثابتة للأفعال الإنسانية كالوجوب والحظر والإباحة والندب والكرَاهة، وكون العقد صحيحاً وفاسداً وكون العبادة قضاءً أداءً وأمثاله(5).
لقد أدّى جمود علم الفقه طرداً مع "إغلاق" باب الاجتهاد، وازدياد الاتباعيّة في الفكر الإسلامي إلى أن يتوسط الإنتاج الفقهي بين المسلم وبين النص، بحيث غدت الشريعة أقوال الفقهاء وأقوال الفقهاء هي الشريعة(6). ولم يكن ذلك ممكناً لولا أن النظرية الفقهية للنص قد اضطلعت بوظيفة نظريةٍ معرفيةٍ بالنص نفسه، واختزلت هذا الوعي إلى حدود الوعي الفقهي الذي يمثل جانباً من جوانب منظومة الوعي الإسلامي، وبمعنى آخر غدا الوعي الإسلامي بالنص وعياً فقهياً، أسبغ القداسة فعلياً على الإنتاج الفقهي، مع أنه إنتاج بشري بحت ليست له أي قداسةٍ في المنظور الديني، ويمثل الشق التاريخي من التشريع لا أكثر ولا أقل، والذي يتميز بتغيره وحينيته وبخصائصه الوظيفية. بل إن هذا الوعي الفقهي أخذ يحكم الوعي الاعتقادي، مزيحاً الوعي التأويلي جانباً عن منظومة التفكير الإسلامي، وبهذا المعنى شكّل الفقه المنتَج منظومةً كهنوتيةً بالمعنى الاعتباري للكهنوتية وليس بالمعنى التجسيدي بالضرورة، أي منظومةً تتوسّط بين المسلم وبين النص، وبالتالي بين المسلم والله. وهذا التحول جزء من أنتروبولوجية الإسلام أي الإسلام كما يمارسه المسلمون وليس جزءاً من طبيعته اللاهوتية التي تنفي أي توسطٍ اعتباريٍ أو مشخص بين المسلم والله.
 لكن عملية إزاحة الوعي التأويلي وبالتالي إيقاف الذاتية النصية القرآنية عن الحركة لصالح ترسيماتٍ فقهيةٍ حلّت فعلياً مكان النص الذي يتجاوزها ويتجاوز بحكم دينامياته كل قراءاته، ليكون دائم المقروئية والتحيين، لم يكن ممكناً لولا أن الوعي الفقهي قد فرض آلياته المعرفية على الوعي الإسلامي.
 وبمعنى آخر لم تكن المعارضة ممكنةً ما بين التفسير والتأويل التي يتميز فيها الفقيه عن الكلامي والتأويلي في اعتنائه بالأحكام العملية، لولا أنّ التصورات العقائدية أو القصدية القرائية قد أثرت في نظرية المعرفة الإسلامية بالنص أوفي أدنى حد في الوعي به. فالتصورات الكلامية تحكم طريقة الوعي الفقهي حتى وإن استقلّ هذا الوعي ذاتياً عن الوعي الكلامي أو الاعتقادي. ومن هنا استخدم المتكلمون الأشاعرة قواعد علم أصول الفقه في مجال العقيدة أو أصول الدين، بشكلٍ غدا فيه هذا التأسيس حاسماً في تحديد الصورة النهائية للكلام الاعتقادي الإسلامي، فكان ما فعله الأشعري في الحقل الإسلامي السني لأصول الدين(العقيدة) نظير ما فعله الشافعي في حقل أصول الفقه(الشريعة).
 لقد خضع أقطاب المتكلمين هنا في إطار سيادة الوعي الفقهي إلى قواعد الأصوليين ومعاييرهم الإبيستمولوجية البيانية والتفسيرية والقياسية النصية التي تجوّف النص من ذاتيته التوليدية والتخلقية والديمومة والصيرورة، أي تجوفه من قابلياته التأويلية، وغدت أصول التفكير العقدي محكومةً بأصول التفكير الفقهي وقواعده، وأدى ذلك إلى تحويل التأويل نفسه إلى شكلٍ من أشكال التفسير البياني. فما هو قياس أو استدلال تمثيلي أو قياس الفرع على الأصل في النموذج الأصولي هو قياس الشاهد على الغائب في النموذج الكلامي الذي يفترض الوعي التأويلي. وهذا القياس هو من أضعف أنواع الاستقراء معرفياً، فطاقته الاستكشافية محدودة ؛ لأنها مقيّدةٌ بمثال سبق على حد تعبير الإمام الشافعي. والطامة الكبرى تكمن هنا في تقييد الوعي الفقهي للوعي الإسلامي على مختلف جوانبه، من حيث اختزاله لقواعد التفكير عامةً وليس لقواعد العلم بالأحكام وحدها.
 إن القياس الفقهي لا يثبت حكماً بل يكشف حكماً ثابتاً للمقيس(الفرع) من وقت ثبوته للمقيس عليه (الأصل) لوجود علّة الحكم فيه، كما هي في المقيس عليه. وغاية ما في الأمر أن ظهور الحكم في المقيس تأخر إلى كشف المجتهد عن علّة وجود الحكم، وبيان اشتراك المقيس والمقيس عليه فيهما، فيظهر أن الحكم فيهما واحد(7) وبلغة عبد الوهاب خلاف "القياس مظْهرٌ لا مثبت" فـ "لا يثبت ولا يضع حكماً في الفرع من عنده، وإنما يظهر أن حكم الأصل الذي ورد فيه النص ليس مقصوراً على واقعة النص، وإنما هو حكمٌ فيها، وفي كلّ واقعةٍ تحقّقت فيها علّته"(8). ليست الأحكام هنا إلا نصّاً أو حملاً عليه بالقياس في ضوء آلية قياس الفرع على الأصل التمثيلية.
لا يفارق حكم الفرع هنا حكم الأصل لأن أثر القياس هو تعدية الحكم من محلٍ إلى محل. بكلامٍ آخر القياس في نظرية النموذج الأصولي للنص هو تفسير للنص وفق قواعد النموذج وليس وفق ما يتيح النص من إمكاناتٍ قرائيةٍ أخرى، ولا يعدو التفسير التمحور حول وسائل فهمه وبيانها أكثر من التمحور حول مقاصده. ومع أن ابن تيمية قد تميز نسبياً بتخطي المسالك اللغوية الضيقة للعلل، وأخذ المقاصد بعين الاعتبار في استدلاله التمثيلي، فإن تصوره لـ"القياس الحق" أو"الصحيح" لا يعدو قياس الطرد(الجمع بين المتماثلين)وقياس العكس(التفريق بين المتخالفين)، أي أن العلة تعمل طرداً وعكساً. فالقياس الفاسد هو تبعاً إلى ذلك الذي لا يتحقق فيه التماثل في العلة.
لقد تحول الوعي الفقهي إلى وعيٍ شكليٍ يضحّي بمقاصد الشريعة وحكمتها، فهناك وفق عبد الله دراز ركنان لاستنباط أحكام الشريعة هما: علم لسان العرب وعلم أسرار الشريعة ومقاصدها. ولقد انشغل الأصوليون بالركن الأول في حين "أغفلوا الركن الثاني إغفالاً"(9). إن تهميش المقصد قد كان بحكم آليات الوعي الفقهي والنموذج الشكلي القياسي الذي يحكمه، ومن هنا لم يعد المقصد يرد في النموذج الأصولي إلا عبر إشارةٍ في باب القياس عند تقسيم العلّة بحسب مقاصد الشارع، وبحسب الإفضاء إليها، ويصبح المقصد هنا تابعاً إلى القياس في إنشاء الأحكام الشرعية العملية(10). وهو ما سبق لمحمد أبي زهرة أن لاحظه حين أشار إلى أن علماء الأصول منذ الشافعي لم يتجهوا على بيان المقاصد بقدر ما وقفوا عند الوسائل(11) التي باتت تطلب لذاتها وليس لما وراءها، فيرى الطاهر بن عاشور في ضوء مفهومه للمقاصد كعلمٍ أصوليٍ جديدٍ "أنّ معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع على خدمة حكمة الشريعة ومقصدها، ولكنها تدور حول مصدر استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة القواعد" ومن هنا أدّت عبادة الوسائل على حساب المقاصد إلى وضع النموذج الأصولي في مواجهة المقاصد نفسها، ومن ثم تعطيل النص عن مقاصده.
لم يعد ممكناً حل مأزق النموذج الأصولي وأزمته باتت مزمنةً من دون إعادة تأسيسه من جديد على أساس المقاصد الكلية للشريعة التي يمكن إدراجها في إطار نظريةٍ عامةٍ لتأويل النص القرآني في إطار عالمٍ متغيّرٍ على أساس تحقيق المصلحة التي يفترض بها أن تشكّل رحى التشريع الإسلامي. فالتأويل في ضوء المصلحة هو من أهم أبعاد هذه النظرية المدعوة إلى السيادة، والتي ينطلق فيها فهم النص من وعيٍ جديدٍ هو الوعي المقاصدي. وهو ما يربط مابين التأويل والاجتهاد من ناحية أن "التأويل هو من صميم الاجتهاد بالرأي المستند إلى المناهج الأصولية، وهو صرف المعنى اللغوي الظاهر المتبادر إلى معنى آخر، بالاستناد إلى دليل من نص قاعدةٍ عامةٍ أومن حكمة التشريع، يجعل المعنى المؤوّل راجحاً بالدليل"(12). وهذا الرأي هو لفتحي دريني وأهميته أنه يضع النظرية الفقهية في إطار النظرية التأويلية أو يعتبر النظرية الفقهية مجرد مصدر من مصادر النظرية التأويلية، بما يكشف عن انحياز الدريني على مدرسة الاجتهاد بالرأي الذي يدخل التأويل بحسب المصلحة والتطور الثقافي والعرفي في صلبها، هوما يوضحه بقوله: "والتأويل من صلب الاجتهاد بالرأي في نطاق النص، بما هو جهد عقلي ينصب على تفهم المراد من النص لا على ضوء ما يوحي به من منطق اللغة في معناه الظاهر"(13). ويقترب الدريني في ذلك من نظرية المقاصد الشرعية في طرحها الجديد في إعادة الاعتبار للوعي التأويلي في فهم النص وممارسته وإنتاجه.
إن التأويل في إطار وعيٍ مقاصديٍ تأويليٍ جديدٍ بالنص يمكنه أن يحلّ عقبات ما يسميه رضوان السيد بعدم قدرة النظرات التجديدية المعاصرة على التحرك إلا في غير مجالات الجزئيّات(14). ومن ثم اعتماد وسائل استدلال مستقلة في ضوء الاجتهاد المطلق بالشّرع، بما في ذلك تخصيص عام النص وتقييد مطلقه، أو تأويل ظاهره أو إيقافه عن العمل، ولقد وقع فقهاً وتاريخاً ومصلحةً ً في عهد المسلمين الأوائل. فالتأويل هنا لا يخص غير الواضح الدلالة مثل"الخفي" و"المشكل" و"المجمل" و"المتشابه"، بل يشمل أيضاً ما هو واضح الدلالة بأقسامه المعروفة مثل الظاهر والنص اللذين يقبلان التأويل، إذ إن إغلاق التأويل حتى في الظاهر والنص"قد يؤدي إلى البعد عن روح التشريع والخروج عن أصوله العامة وإظهار النصوص متخالفةً"(15). وإنّ تخصيص العام هو من أوضح أشكال التأويل أي من أوضح إخراج اللفظ عن ظاهر معناه إلى معنى آخر يحتمله ولومن بعيد، أو تستدعيه ذاتيته النصية، أو تستدعيه المصلحة. عن المصلحة التي يفرضها الواقع تغدو هنا من أهم طرق الدلالة، والتخصيص بالتالي بوصفه شكلاً من أشكال التأويل يكون بأدلةٍ معينةٍ تنتمي برمتها إلى حقل المتغير في الواقع مثل العقل والعرف والمصلحة وروح التشريع ومقاصده، بما في ذلك قيادة التخصيص إلى نسخ النص فعلياً، مع أنّ المنتمي إلى الفضاء التأويلي الإسلامي يقول انسجاماً مع فهمه لقداسة النص وحرية التأويل إنّ هذا ليس نسخاً بل هو بيان للمراد من العام أو المطلق، مع أنه نسخ من حيث إن النسخ في أصغر تعريفاته رفع للحكم بعد ثبوته. وبالنسبة على المسلم غير الملتزم أو غير المسلم قد لا يعني ذلك شيئاً لكن بالنسبة إلى من أرادوا ويريدون أن يعيشوا بحسب الإسلام فإن العطل ليس في دينهم بل في كوابح فهمهم له. وحين يفهمون النص مقاصدياً ستضيق الفجوة بينهم وبين غير المسلمين على أساس رسالة الانتماء الإنساني التي تشكل جوهر النص.

*******************
الحواشي
1) محمد الطالبي، عيال الله: أفكار جديدة في علاقة المسلم بنفسه وبالآخرين، دار سراس للنشر، تونس، 1992، ص137.
(2) قارن مع أحمد بوحسن، نظرية التلقي والنقد الأدبي الحديث، في"نظرية التلقي: إشكالات وتطبيقات"، مجموعة باحثين ونقاد، جامعة محمد الخامس، 1993، ص21.
(3) منذر عيّاشي، مقالات في الأسلوبية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1990، ص137.
(4) ميلود حبيبي، النص الإبداعي بين التلقي وإعادة الإنتاج، في"نظرية التلقي: إشكالات وتطبيقات"، مصدر سبق ذكره، ص174.
(5) أبو حامد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، دون تاريخ.
(6) سيد سابق، فقه السنّة 1/13، ج1، دار الكتاب العربي، بيروت، دون تاريخ.
(7) عبد الكريم زيدان، الوجيز في أصول الفقه، مكتبة القدس، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1978، ص12.
(8) عبد الوهاب خلاف، مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نصّ فيه، جامعة الدول العربية، معهد الدراسات العربية العالية، 1955، ص22.
(9) عبد الله دراز، من مقدمته لتحقيق: الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي، ص10-11.
(10) عبد الله دراز من مقدمته لتحقيق الموافقات في أصول الشريعة، المصدر السابق، ص11، قارن مع عبد المجيد الصغير، الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام: قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة، دار المنتخب العربي، بيروت، ط1، 1994، 469-471.
(11) محمد أبو زهرة، الشافعي، ص372-373.
(12) فتحي الدريني، حول مفهوم الاجتهاد، مجلة المعارج، العددان 44-45، 2003، ص364.
(13) المصدر السابق، ص364.
(14) أورده قيس خزعل العزاوي، الفكر الإسلامي المعاصر، نظرات في مساره وقضاياه، دار الرازي، بيروت 1992، ص74.
(15) عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، دار القلم، الكويت، 1983، ص166.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More