الأحد، 14 أغسطس 2011

التفكير مع هابرماز ضد هابرماز... كارل آتو آبل

ينتمي الفيلسوف الألماني المعاصر «كارل أوتو آبل»، زميل الفيلسوف المعروف «يورغن هابرماز» في مدرسة فرانكفوت، إلى اتجاه فلسفي يعرف بالتداولية البراغماتية. ويوجه في كتابه «التفكير مع هابرماز ضد هابرماز» (ترجمة عمر مهيبل، بيروت، 2005)، نقداً صارماً لهابرماز ولنظريته التواصلية، إذ يستقي عنوان كتابه من مقال كتبه هابرماز في بداية خمسينيات القرن العشرين المنصرم بعنوان «التفكير مع هيدغر ضد هيدغر»، ووجه فيه نقداً لاذعاً لفيلسوف ألمانيا المعروف بلقب فيلسوف الكينونة «مارتن هيدغر».
وكان نقد هابرماز لهيدغر قد تمحور حول كونه فيلسوفاً أنطولوجياً، وصاحب إشعاع سياسي كان له تأثيره الهام على الشباب الألماني في فترة حرجة من تاريخ ألمانيا المعاصر، وهي مرحلة صعود النازية في ثلاثينيات القرن العشرين المنصرم. ويعتقد هابرماز أن هيدغر يتحمل مسؤولية أخلاقية لما حدث لليهود في تلك الفترة من الزمن، من جهة أنه كان عنوان الأنتلجنسيا الألمانية في تلك الفترة، وممارسته عقيدة الصمت حيال ما جرى في ذلك الوقت. وينهي هابرماز مقالته بالقول: «أعتقد أنه قد حان الوقت الآن لكي نفكر مع هيدغر ضد هيدغر». لكن هيدغر كما اتضح، في ما بعد، كان قد بيّن موقفه من الاتهامات التي سيقت ضده، من خلال الحوار الذي أجرته معه مجلة «دير شبيغل» عام 1966، والذي اشترط عليها عدم نشره إلا بعد وفاته، وقد احترمت المجلة المذكورة رغبة هيدغر، ونشرته بعد وفاته عام 1976.
ولا يبتعد آبل كثيراً عن هابرماز، إذ تضيق المسافة التأسيسية بينهما، من جهة انتماء كلّ منهما إلى أفق التداولية: البراغماتية والشاملة، لذلك فإن كتابه «التفكير مع هابرماز ضد هابرماز»، ليس أكثر من حوار داخلي يحاول جمع شتات المختلف حوله، وترتيب المتفق عليه بينهما، كما يشير إلى ذلك بنباهة مترجم الكتاب.

المنهل الفرنكفورني
وبالفعل فإن كلا الفيلسوفين ينهل من التغيير التداولي الألسني التأويلي الذي حدث في العصر الحديث. وبالتالي يطاول التساؤل إمكانية قيام مناقشة فلسفية تنهض على نفس موارد التفاهم الموجودة في العالم المعيش، فهابرماز يعدّ الوريث الفلسفي للنظرية النقدية الحديثة، ولم يتمكن من تجاوز السقف التأسيسي الذي دشنته مدرسة فرانكفورت الفلسفية، واعتبرت فيه الغرب نتاجاً متكاملاً، على المستوى الفلسفي والاجتماعي التاريخي، وعلى مستوى القيم والسلوك. وقد تحول هذا النتاج إلى إيديولوجيا أنتجت أنظمة فاشية وشمولية، الأمر الذي أحدث قطيعة مع الأنوار الأوروبية.
وراح هابرماز ينهل، في فلسفته، من التراث النقدي لفلاسفة فرانكفورت، ولم يتوقف من خلال ممارسته الفلسفية عن السعي إلى توصيل أفكاره الفلسفية والاجتماعية النقدية إلى مختلف المهتمين في العالم، إدراكاً منه أن الفكر النقدي لا يقصر على إقليم بعينه أو شعب، بل يخص جميع أبناء العالم. لكن هابرماز لم يتمكن، ولا ناقده آبل كذلك، من تأسيس نظرية أخلاقية سلوكية تكون عنوان علاقته مع الآخر، بل لجأ الأخير إلى المزاوجة بين التنظير الفلسفي في حالته الكانطية ومن النظرية النقدية، وبين التداولية البراغماتية بميراثها الحسي الأميركي المستند إلى تحديدات «بيرس»
و»جون ديوي» وميراثها اللغوي الألسني كما دشنه «موريس». ويجري آبل ما يشبه جردة حساب مع مفهوم المحاجة، معتبراً أن المناقشة الحجاجية ليست مجرد لعبة تنهض على اللغة، بل عماد النشاط التواصلي، بوصفه ماهية أساسية ذاتية وبينذاتية في ذات الوقت، وتنطبق على وجه الحصر على أنواع النشاط التي حددها هابرماز. وهذا الأمر يتعلق أساساً بفكر هابرماز، وبما يهدد انسجامه وحقيقة وجوده. ويأخذ على هابرماز إهماله لإعادة البناء، مع أن هذا الإهمال لن يمنعه من تمثل عام لآفاق فهم مسبق تنتظر إعادة بنائها، حيث تكمن فيها الموارد النوعية للعالم المعيش الذي لا يمكن لأي تفاهم متبادل أن يتم من دونه، وذلك وفقاً للمفهمة التي أسبغها هابرماز على هذه الآفاق في نظرية الفعل التواصلي. وهذا الأمر يتعلق بحسب هيدغر وغادامير ببنية مسبقة لحدث الكينونة في العالم التي تضم البنية السابقة لكل تفاهم متبادل، وتجعله ممكناً كذلك. ويأخذ آبل على هابرماز رفضه الدائم للزوم تأسيس نهائي، صالح بصورة قبلية، للزعم الفلسفي بصلاحة المنطوقات الشاملة التداولية، الخاصة بالفرضيات الضرورية للمناقشة الحجاجية، معتبراً ذلك مستحيلاً ولا فائدة منه. لكن مع ذلك كله فإن أهمية هابرماس تتجلى في أنه فتح الفلسفة المعاصرة على نظرية التواصل، بشكلها المتميز، ثم سار بها قدماً، كي تمس السلوك الاتصالي، سعياً منه إلى تشخيص حال العالم بشكل عام، والمجتمعات الأوروبية بشكل خاص، ومحاولاً تحليل أسباب ونتائج ما يهدد الحياة الإنسانية، وخاصة محاولات تحطيم بنيات الاتصال في خصوصياتها الإنسانية التي ترتبط بالقوى اللاعقلانية، وهي كثيرة في عالم اليوم. وشكلت اللغة هاجس هابرماز ومجال اهتمامه، فهي بالنسبة إليه وسيلة وسلوك اتصالي، واستخدمها في نظريته في الفعل التواصلي، التي تنهض على الحوار والتفاهم بين مجموعة المتحاورين في مجتمع الأصدقاء. وسعى في سياق ذلك إلى الكشف عن العقل العملي، الذي يفرض علينا ما نعمله وما نتكلمه، من خلال الاعتراف بالتفاهم والحوار السلمي، وفي ظل ظروف وشروط الاختلاف الاجتماعي والثقافي. وهدف هابرماز من ذلك كله، هو مواصلة تقاليد الأنوار، من خلال نظرية اجتماعية نقدية، تنهض على ترسيخ قيم الحرية والعدالة في الذاكرة الاجتماعية، وتربطها بقوى دولية تمكنها من تفتح نواة الخير العام، والفضاء الذي يتسع للجميع.
 
الفعل التواصلي
 غير أن آبل لا يوافق هابرماز في اعتراضه على الاختلاف المبدئي والجوهري من وجهة النظر المعرفية والمنهجية، الذي يقابل بين المنطوقات الممكنة للعلوم الاجتماعية التجريبية، كالمنطوقات الافتراضية لألسنية تشومسكي على الجوامع اللغوية والمنطوقات الكلية للفلسفة. إضافة إلى ان هابرماز اعترض على منطوقات التداولية الشاملة، واستخدم دون تحديد يذكر مبدأ قابلية الخطأ على منطوقات التداولية الفلسفية الكلية.
ويعتقد هابرماز أن بإمكانه القبول دونما حاجة إلى إقامة أساس آخر عدا التواصل في العالم المعيش، بسبب موارد التفاهم في العالم المعيش التي نلجأ إليها عندما نتجه إلى وضعها موضع تساؤل خلال مسار الأنوار. كما أنه يعتقد أننا نتوصل إلى صيغة للتأسيس التداولي البراغماتي للمبادئ الأساسية للأخلاق بمجرد إمساكنا بالشروط الضرورية لكل تواصل في العالم المعيش، وأن التأسيس النهائي للأخلاق ينبغي أن يستبدل باللجوء إلى الأخلاقية التي كانت منغرسة على الدوام في بنية النشاط التواصلي.

ويرى آبل أن السياق الخاص بمسألة التأسيس لا يتوافق مع الخط الرئيس لفكر هابرماز، بوصفه يتيح لنا رؤيته وكأنه ردّ فعل نابع من تحدّ يعود إلى غياب مخرج بالنسبة إلى تأسيس فلسفي نهائي للأخلاق. كما أن التأسيس الفلسفي، والعقلاني منه تحديداً، لمبدأ الأخلاق ينبغي أن يستبدل باللجوء إلى أخلاقية النشاط التواصلي في العالم المعيش كما تمارس في الواقع. والأهم من ذلك هو أن نظرية الفعل التواصلي ذاتها، بنواتها التداولية الشكلية وبتفريعاتها بين أنماط مختلفة من عقلانية الفعل والتفريق بين نسق وعالم معيش، تبدو أنها ليست متضمنة في الفهم والحكم الملموسين على أسباب الفعل، التي تقوم بموجبها بصياغة منطوقات تدعي الشمولية الشكلية، مع أنها تحتوي على منطوقات تعمل على توضيح العلاقة الداخلية بين الفهم الممكن لأفعال اللغة، وبين ما يفترض أن تعرفه عن شروط الإمكان القادرة على توضيح مزاعم الصلاحية لدى أفعال اللغة. إن ما يثير حفيظة آبل هو الدور الفاسد للاستدلال الزائف الجوهري الذي يرفضه بشدة، فلا يقبل بتأسيسوية طبيعوية أو بتأسيس من الأسفل للصلاحية التي ترتبط ارتباطاً ضرورياً بتقييم غير واقعي لأنماط العالم المعيش، التي تشبه التغيير المثالي.
ويعتقد هذا الفيلسوف أنه لا يمكننا أن نجد أنفسنا في وضع مأزق منطقي نعود إليه غالباً، ويتضمن استحالة تأسيس عقلاني لما ينبغي أن يكون، سواء على مستوى الأخلاق أو العقل، لأنه سبق افتراض ما يجب أن يؤسس، وبتجنبنا للمفهوم التقليدي للتأسيس، فإن التأسيس النهائي التداولي البراغماتي يكون قد ترك خلفه التأسيسوية، أي الميتافيزيقا الدغمائية المرغمة على الاستناد إلى مسلمات تصبح بمثابة بديهيات، ذلك أن التأسيس النهائي التأملي لا يستدعي إطلاقاً فرضيات ميتافيزيقية. وبما أنه ينبغي التأكيد على الافتراضات التي يمكن تجاوزها للمحاجة الفلسفية فإن التأسيس التداولي البراغماتي يتضمن من وجهة نظر العقل الانتقادات التي تسمح بكشف التدابير الميتافيزيقية الخفية، فالفلسفة النقدية حسب ما يطمح إليه آبل عاقدة العزم على متابعة الصمود بوجه الميتافيزيقا الخفية، إلا إذا قادت «بربرية التفكير»
بلغة فيكو إلى إنكفاء الثقافة الإنسانية إلى حالات بدائية. 
لتحميل الكتاب: اضغط هنا

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More