إن النص الحجاجي بناء لغوي يختلف عن غيره من النصوص لكونه يبنى بناء تفاعليا مدعوما بأدوات ووسائل توظف لغرض الإقناع والتأثير ،وليس كل خطاب بالضرورة حجاجا ، فقد تكون نهاية خطاب ما ، ذاتية ، أي دون أن تهدف إلى إقناع ، أو قل لا يشكل الحجاج هدفه الأساسي والمباشر ، وحتى وإن كانت هناك تعابير حجاجية فإنها تأتي بشكل عرضي ، فالخطاب اليومي الذي يجريه الناس فيما بينهم ، من أجل التعارف ، أو نقل المعلومات ، أو تبادلها ، أو تقديم معطيات ، لا يكون من أهدافه سوق حجة أو الاستدلال على موقف أو الدفاع عن أطروحة ، أو حمل الآخر على خطة ، أو النخراط في عمل ما ." ففي ظل الأوضاع السياسية لليونان، بعد أن طرد الحكام الجدد الجبابرة، هب المواطنون مطالبين باسترداد ما أخذ من ممتلكاتهم وأراضيهم، فاحتاجوا إلى من يدافع عنهم وينطق عن لسانهم، في هذه الظروف ظهر السفسطائي الصقلي الشهير Corax كوراكس ووضع مشروع خطابة، يراعي النقاط التي تؤثر في القاضي، وتهدف إلى تحقيق المصلحة. فحدد الأقسام الخمسة الكبرى التي مثلت طوال قرون عدة التقسيم النموذجي للخطبة، تحدث عن الاستهلال والقص والاحتجاج والاستطراد والخاتمة" . وقد جعل أرسطو المكونات النصية للخطاب - في حديثه عن وسائل الإقناع في فن الخطابة – ترتد إلى ثلاثة عناصر رئيسة يلحق بها عنصران ثانويان، وقد جعل تلك المراحل خطاطة بنى عليها كتاب الخطابة ..." فالمقالات الست من الثانية إلى السابعة من كتاب المواضع تخص مرحلة استكشاف الأدلة ، والمقالة الثامنة تناول فيها ما يخص ترتيب أجزاء القول والإلقاء والأسلوب جميعا "، وفي ما يلي عرض لهذه المراحل:
الإيجاد:( مصادر الأدلة ومنابع الحجج ) ويطلق عليها د/ محمد طروس الإعداد .وهو عبارة عن تحديد المشكلة المطروحة والبحث عن الوسائل المناسبة للإقناع. ويمثل هذا العنصر في البلاغة الحجاجية الجزء المركزي الحاسم . وقد سبق تفصيلها في الفصل الثاني من هذا البحث.
الترتيب:( وضع الأدلة موضعها من الخطاب) ويطلق عليها د / طروس التنظيم .فبعد تحديد الحجج والتفكير في مكونات الخطاب وأجزائه الكبرى، يفكر الخطيب/ المتكلم في ترتيب كل ذلك، بحيث يضع كل جزء في موضعه المناسب، أي إلى لحظة الهيكلة وتهيئة مخطط مناسب للخطابة. وقد أعد بلاغيو الحجاج ترتيب القيم أهم من معرفتها وتمجيدها. قال بيرلمان: "لا شك أن تراتبيات القيم، منظورا إليها من وجهة نظر البنية الحجاجية، هي أكثر أهمية من القيم نفسها. فالواقع أن أكثر القيم مشترك بين عدد كبير من المستمَعات. وتكمن خصوصية كل مستمَع في الطريقة التي يرتب بها هذه القيم أكثر مما هي كامنة في القيم التي يقبلها ) ، ويمكن أن نرسم التصميم الأكثر استعمالا في الخطابات القديمة على النحو الآتي:
- الاستهلال
- السرد
- الإثبات
- الاستطراد
- الخاتمة
وتشير بنية هذا التصميم إلى أن " الحجة وحدها لا يمكن أن تكون فعالة لمجرد أنها حجة جيدة ، بل ينبغي بالضرورة لكي تكون فعالة حقا ، أن تُصاغ الصياغة المناسبة "وقد يهمل الخطيب ذلك التصميم الجاهز ليكون قادرا على الإقناع فيعدل بالحذف أو الزيادة ؛ وذلك ليلفت انتباه المتلقي الذي يعشق تلك الخطابات التي تفاجئه بالترتيب المصطنع والغريب والجذاب. وماالبلاغة إلا أن تقصد الإبلاغ وتتخير لذلك اللفظ والتركيب الحسن ". وفيما يلي عرض لهذا البناء الفني للخطبة:
1-الافتتاح ( الاستهلال) : هذا الجزء الافتتاحي ليس خاصاً بالخطابة، إنه مشترك بين مجموعة من الفنون. ففي الوقت الذي يتحدث فيه الموسيقيون عن البريلود يتحدث الكوميديون عن البرولوك ويتحدث الخطباء عن الإكزورد، أي الافتتاح. يتعلق الأول بالجزء البدئي المختصر ووظيفته هي إفادة المتلقي ولفت انتباهه وكسب عطفه أي استمالته . وينبغي أن يكون الافتتاح مرتبطاً مع الخطبة ببراعة الاستهلال؛ فإنّ براعة الاستهلال من أخصّ أسباب النجاح في الخطبة "،فالمتكلم يبدأ كلامه بما يشد انتباه من يكلمه ، فيتخير من اللفظ ما يناسب مستمعه ، يقول الجاحظ :" ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وحالاتهم، فيجعل لكل طبقة منهم كلاماً يخصهم به حتى يقسم بالتساوي أقدار الكلام على أقدار المعاني ويقسم المعاني على أقدار المقامات التي هم عليها المستمعون وحالاتهم". وكان القدماء اشترطوا أن تُسْتَهلَّ الخطبة بحمد الله وتمجيده والثناء عليه، وتُزَيَّن بالصلاة على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، مع ضرورة توشيحها بآيات قرآنية، يقول الجاحظ: "وعلى أنّ خطباء السَّلَف الطيّب، وأهل البيان من التابعين بإحسان، مازالوا يُسَمّون الخطبة التي لم تُبْتدأ، بالتحميد، وتُستفتح بالتمجيد (البتراء). ويُسَمُّون التي لم توشّح بالقرآن، وتُزَيَّن بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (الشوهاء) ".كما يُستحب أن تكون وثيقة الصلة بالعرض أو الموضوع، وفي ذلك يقول ابن المقفّع (ت 142 هـ) في سياق جوابه عمّن سأله عن البلاغة: "وليكن في صدْر كلامك دليلٌ على حاجتك، كما أنّ خير أبيات الشعر البيتُ الذي إذا سمعتَ صدره عرفت قافيته". وعلّق الجاحظ على قوله: "وكأنّه يقول: فَرِّق بين صَدْر خُطبة النكاح، وبين صَدْر خطبة العيد، وخطبة الصُّلْح، وخطبة التواهُب، حتى يكون لكلِّ فنٍّ من ذلك صدرٌ يدلُّ على عجزه؛ فإنّه لا خير في كلامْ لا يدلّ على معناك، ولا يشير إلى مَغْزَاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت، والغرض الذي إليه نَزَعت".
ويستحبّ أيضاً أن تناسب المقدّمة الخطبة طولاً وقِصراً؛ لأنّها إن طالت صرفت انتباه السامعين، واستنفدت جهد الخطيب، وإن قصرت لم تستكمل شروط جودتها وحسنها، التي ذكرها النقاد والبلاغيون. بيد أن الخروج على هذه السّنن والآداب الخطابية، لا يعني خللاً في بنية الخطبة، أو علّة قدح بحسنها وبلاغتها؛ إذ عادةً ما يكون الخروج على هذا النهج مُسَوَّغاً لسببٍ ما يُنبئ عنه الموقف النفسي للخطيب، وموضوع الخطبة، وطبيعة المتلقّين. وأحياناً يكون مستحبَّاً؛ إذا توافق ومقتضى الحال، كما في الاستهلال ببيتٍ من الشعر، أو قول مأثور، أو حكمة سائرة، أو آية قرآنية، تتفق وموضوع الخطبة.
والتقديم على هذا النحو، عادةً ما يكون في خطب الوعيد والتهديد، وهو منهج دَرَجَ عليه كثير من الخطباء، وكان لخطبهم تلك النصيب الأوفى من الذيوع والانتشار.وإلى هذا المعنى أشار أبو هلال العسكري حيث يقول : " وإذا كان الابتداء حسنا بديعا ، ومليحا رشيقا ، كان داعية إلى الاستماع لما يجيء بعده من كلام ، ولهذا المعنى يقول الله عز وجل " ألم ، حم ، طسم ، كهيعص" فيقرع أسماعهم بشيء بديع ليس لهم بمثله عهد ،ليكون ذلك داعية لهم إلى الاستماع لما بعده ، والله أعلم بكتابه ، ولهذا جعل أكثر الابتداء بالحمد لله ؛ لأن النفوس تتشوق للثناء على الله فهو داعية إلى الاستماع" . كما أشار إلى ذلك ابن الأثير حين قال:" إنما خصت الابتداءات بالاختيار ؛لأنها أول ما يطرق السمع من الكلام ، فإذا كان الابتداء لائقا بالمعنى الوارد بعده ، توفرت الدواعي على استماعه ".ونوه حازم القرطاجني إذ يقول :" وملاك الأمر في جميع ذلك أن يكون المفتتح مناسبا لمقصد المتكلم من جميع جهاته ،فإذا كان مقصده الفخر كان الوجه أن يعتمد من الألفاظ والنظم والمعاني والأسلوب ما يكون فيه بهاء وتفخيم ، وإذا كان المقصد النسيب كان الوجه أن يعتمد منها ما يكون فيه رقة وعذوبة من جميع ذلك ، وكذلك سائر المقاصد.. ". وقد يستهل المتكلم – خطيبا كان أو كاتبا – كلامه بكلام مبهم ؛ ويكون ذلك لجذب المتلقي لا لتضليله أو التعمية عليه ،ومن هنا قال عبد القاهر الجرجاني : إن الشيء إذا أضمر ثم فسر كان ذلك أفخم له من أن يذكر من غير تقدمه إضمار" وذلك مثل الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن محجن بن الأدرع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال:
" يوم الخلاص وما يوم الخلاص ، يوم الخلاص وما يوم الخلاص يوم الخلاص وما يوم الخلاص .
فقالوا : وما يوم الخلاص ؟فقال: يجيء الدجال فيصعد أحدا ، فينظر المدينة فيقول لأصحابه : أترون هذا القصر الأبيض ، هذا مسجد أحمد ، ثم يأتي المدينة فيجد بكل نقب منها ملكا مصلتا ، فيأتي سبخة الحرف فيضرب رواقه ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات فلا يبقى منافق ولا منافقة ولا فاسق ولا فاسقة إلا خرج إليه فذلك يوم الخلاص ".
فلقد استهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه بجملة مبهمة لا يعي المخاطبون حقيقتها ، ليهول الأمر ويعظم قدره ؛ ليلفت انتباه الصحابة . فلفت الانتباه لحظة أساسية لأنها الوسيط بين الجمهور والقضية المطروحة في الخطابة. إن الجمهور قد يبدي بعض الفتور إزاء ما يسمع. وهذا الفتور قد يجد أصوله في تعقيد القضية. أوفي الأحوال النفسية للجمهور غير المكترث بالقضية بسبب التعب أو الملل أو في العادات السيئة لجمهور مدلل أو مبالغ في تشدده، الخ. وإذا استعصت القضية على فهم الجمهور وجب اللجوء إلى صدمه لأجل إثارة انتباهه. هذا الأثر الجاذب يكمن في تأكيد أن الموضوع الذي سيعالج يكتسي أهمية بالغة. وهناك طرق مختلفة للتمكن من التهيئة الملازمة للمستمع :
أ- إن الوسيلة الأكثر بساطة وطبيعية هي أن نطلب بشكل صريح من المستمع الانتباه لما سنقوله.ب- وبالنسبة لجمهور متعب ينبغي أن نلجأ إلى الوعد بأننا سنكون مختصرين في السرد (وهذا الوعد من شأنه إعفاء الجمهور من الملل) ويمكن أن يكون موضع ثقة إذا كان الافتتاح نفسه يلتزم بهذه الخاصية الاختصارية .
ج- يجوز في بعض الأحيان الإستغناء عن الافتتاح وذلك حينما يقتضي الداعي هذا الحذف. ففي الجنس الاستشاري ونظراً للطبيعة الاستعجالية للخطاب يمكن إختصار المقدمة بل يمكن حذفها. وفي الخطابة الاحتفالية يمكن أيضاً الاستغناء عن هذه المقدمة.
يمكن أيضاً اللجوء إلى أفكار تقديمية داخل الخطاب وبالخصوص الوسائل اللافتة. إن المكان الأفضل لمقدمة ثانية هي الحجاج؛ وهكذا يمكن أن نقيم هذا التوازي حينما نقدم في آخر الافتتاح على تقديم خلاصة السرد.
2-السرد: يعقب الافتتاحَ السردُ وهو العرض المفصل لما تم اختصاره في المجمل والمعروض في الافتتاح. فإذا كان محتوى الرسالة مبنيناً بشكل مفصل وفي شكل نقط، فإن المجمل يعقبه التفصيل وإذا كان محتوى الرسالة مترابط الأجزاء فإن المجمل يعقبه السرد. فهو الجزء المكمل للخطاب الشفوي والمكتوب الذي يضطلع برواية حدث أو سلسلة من الأحداث .
إلا أن هناك قضايا لا تستدعي بطبيعتها السرد. من قبيل ذلك الخطابة الاستشارية.ولكي يكون السرد جيدا ينبغي أن تكون الإفادة الغاية الخاصة له؛ لأن الفائدة لا يمكن الاستغناء عنها، إنها النواة الأساسية. وللسرد أجزاء هي:
أ- الصدر : إن صدر السرد تابع للترتيب الطبيعي أو للترتيب الصناعي للسرد. وهكذا يمكن البدء بأي جزء من أجزاء السرد. ففي الأدب على سبيل المثال يتم البدء بالمصاحبات الظرفية. كالموضوع والزمان والمكان والأداة والشخص والكيف، الخ.
ب - الاستطراد : إنه عنصر مدعم لكل أجزاء الخطاب سواء تعلق الأمر بالافتتاح أم بالحجاج أم بالاختتام. وهو يدعم على وجه الخصوص السرد الذي يمكن أن يتحقق في بدايته أم في وسطه أم في منتهاه. ويسمىه اليونانيون البريكباسيس. ويسميه كينتيليان إيكسكورسوس. والواقع أن أي تعبير عاطفي وأي تفخيم وأي اعتراض للجمهور فهو استطراد. إن محتويات الاستطرادات تتمثل في الوصف الاحتفالي والسرد التزييني الذي يمكن أن يتمثل في كل الأشكال السردية. ويرتبط بالوصف السردي الاستطراد الوجداني، المستعمل على وجه الخصوص في خاتمة الخطابة .
ج- التخلص أو الانتقال : ينصح المنظرون البلاغيون بضرورة الابتعاد عن كل أنواع الوصل بين خاتمة السرد وبداية الحجاج. إن التخلص إلى الحجاج يوفر إمكانيتين إحداهما عاطفية والأخرى عقلية. إن الإمكانية العاطفية تقوم على الاستطراد في حين أن الإمكانية العقلية تقوم على الإجمال أو البروبوزيسيو.
إن الاستطراد العاطفي يخلق جواً لصالح القضية ومفيداً للحجاج لكي يمارس تأثيره بشكل حاسم. والواقع أن الاستطراد العاطفي في نهاية السرد يضطلع بدور افتتاح جديد قبل الحجاج. وفي الواقع فإن انعدام استطراد يغلق السرد يطالب بتعويضه بافتتاحية جديدة.
د- الإجمال أو البروبوزيسيو: هو النواة المفهومية لمحتوى السرد. هذه النواة يمكن أن يعبر عنها في نهاية السرد باعتبارها تلخيصاً للسرد. ويستعمل تبعاً لذلك كمدخل إلى الحجاج . 3- الحجاج كما يعقب الافتتاحَ السردُ، يعقب السردَ الحجاجُ الذي يجعله أرسطو مفخرة الخطباء والنواة المركزية لكل خطابة بل لكل خطاب. (بل لكل كلام، ما دام الكلام هو الأداة لتحقيق التجمع). إذ ما الفخر الذي يمكن أن يجلبه حكي الحدث للخطيب، ما دام الحدث شيئاً معطى واقعياً؟. إن مظهر الموهبة الخطابية يتمثل في القدرات الحجاجية المبتكرة والمركبة على المادة الحدثية المحكية. إن التماس وحصول التخفيف عن متهم بارتكاب جريمة ما، لا يمكن تبريره لمجرد سوق الحدث. إن ذلك لا يمكن حصوله إلا بالقدرات الحجاجية للخطيب وكفاءته في استنباط الحجج المؤيدة لطلب البراءة أوالتخفيف. والواقع أن هذه الحلقة هي التي يتم تناولها ضمن مبحث الإيجاد. وما دام المقال السابق في علامات (العدد 5) قد كان مكرساً له، فإننا لن نخوض فيه الآن. ونكتفي هنا بإحالة القارئ عليه.
4- الخلاصة: إن الجزء المختصر الذي تنتهي به الخطابة يتطابق مع الاستنتاج ويلخص ما تمت البرهنة عليه في الحجاج. وبفضل هذا اليقين فإن المرافع يطلب من القاضي إصدار حكم لصالحه. ولهذه الخاتمة وظيفتان : أولاهما هي تثبيت درجة اليقين، وذلك بفضل التطابق بين السرد (البروبوزيسيو) والاستنتاج. وبفضل التكرار بشكل مختصر للحجج التي تم الإدلاء بها في الحجاج. وثانيهما هي إثارة عواطف مساندة للطرف المرافع من شأنها أن تدفع القاضي إلى إصدار حكم لصالحه. الحصيلة أو التعداد ووظيفتها الأساسية هي إنعاش الذاكرة. إلا أنها بفضل التعداد الملازم للاختصار فإنها تؤثر على العواطف. إن التعداد يقوم على الاختصار. ومع ذلك فلا ينبغي له أن يستخف بالتحسين. إن التعداد في رأي باري يعبر بشكل مغاير عما سبق قوله، إذ إن التنويع يذهب التقزز. للاختتام غايتان : الأولى هي إنعاش الذاكرة والثانية هي التأثير على عواطف المتلقي. يميز باري خمسة أجزاء في الخاتمة، وهي حسب رأي البلاغي الفرنسي : التلخيص والاختيار والأمر والتنويع والإثارة. في حين يذهب أرسطو إلى أن عناصر الخاتمة أربعة وهي استمالة المستمع إلى جهة الخطيب وتنفيره من الخصم ؛الرفع والحط؛ التأثير العاطفي على المستمع؛ إنعاش الذاكرة.
إن الخلاصة هي الفرصة الأخيرة للتأثير على القاضي في الاتجاه الإيجابي الذي يخدم قضيتنا وفي الاتجاه السلبي للخصم. ففي الوقت الذي يكون فيه اللجوء إلى العواطف في كل أجزاء الخطابة خفيفاً فإن أبواب العواطف في هذه اللحظة تفتح على مصراعيها. إن العواطف التي تنبغي إثارتها في هذه المناسبة هي إثارة سخط على الخصم من جهة، وإثارة الرأفة لصالح المدافع من الجهة الـأخرى. من أهم متطلبات جودة الاختتام نجد الإيجاز. إلا أن المحسنات البلاغية تزيد هذا الاختتام عذوبة. الإيجاز هو بهذا المعنى أداة عاطفية. ينصح بالاختصار على وجه الخصوص في الاستعطاف أوالرأفة. إذ إن الدموع لا تسكب بشكل دائم، إنها تجف بشكل سريع. "
الأسلوب: ( الصياغة – العبارة )ويطلق عليها د/ طروس البيان .وفي هذه المرحلة" ينتقل الخطيب لكي يصوغ، لغوياً وبشكل ملموس، ما حشده في لحظة الإيجاد من حجج ومقومات طبائع الخطيب والجمهور، وما نظمه في لحظة الترتيب. ويلتقي هنا، في هذه اللحظة الصياغية، كل ما يتعلق بالنحو، أي عناصر السلامة اللغوية المجردة والتداولية أو المعاني باعتبار هذه تتعلق باستخدام اللغة في سياق ما، أي إن الأمر يتعلق بقابلية الفهم الواضح ضمن السياق. والمحسنات باعتبار هذه تنص على المحسنات الخارقة لقواعد لغوية ما. والحقيقة أن هذا شكل من أشكال الضرورة، أو تلك المتعلقة باصطناع قواعد زائدة على تلك التي يصطنعها النحاة بل عن تلك المطلوبة في فن شعري ما. في هذه الحالة نلتقي بما يمكن اعتباره قواعد زائدة يتكلفها الخطيب. وهذا أشبه ما يكون بـ "لزوم ما لا يلزم" .هذه المباحث كلها هي التي ستحظى بتسمية مشرفة عند المعاصرين ألا وهي الأسلوبية. وربما أطلق عليه آخرون شعرية أو بلاغة المحسنات مقابل بلاغة النزاع. المحسنات قد تتعلق بالأصوات أوالتركيب أو المعنى أو الأفكار ".فلكي يكون الخطاب مقنعا لابد من تلاحم السمات البيانية بالحجج العقلية ؛ فالحجج العقلية تخاطب عقل المتلقي ، والصور البلاغية تخاطب قلبه ، وتحرك مشاعره ، لذلك فإننا نجد " في حالة الخطابة بوصفها إحدى ظواهر الاتصال ذات الخصوصية ، يحتاج مقدم الرسالة إلى أدوات إضافية تسهم في تثبيت المواقف الفكرية أو السياسية ، أو العقدية المطلوب إيصالها إلى المتلقي ".
فإذا كانت الرسالة تشكل العنصر أو الركن الأساسي من العملية الاتصالية، فإن صوغها يشكل أهم شروط نجاحها.. والرسالة ليست نصاً مجرداً ولكنها أيضاً موضوعاً وبقدر ما تملك الرسالة من عناصر الجدّة والأصالة بقدر ما تؤدي وظيفة ذات فعالية أفضل خلال العملية الاتصالية.. فبين الإبداع والاتصال تقوم علاقات لا يمكن إغفالها.
الرسالة التي تحوز على رضا المتلقي والتي يبحث عنها هذا الأخير تكتسب قيمتها من جملة شروط أو خصائص تتصف بها وأهمها أن تكون حائزة على درجة من المصداقية تساعدها على أن تكون مقنعة. ويتطلب الإقناع في أدنى حدوده، أن تكتسب الرسالة مظهراً مقبولاً من الصدق، وأن تكون البساطة أحد أهم صفاتها.. وإلى ذلك فلا بد من تدعيمها بالأمثلة واستخدام الرموز التي تحمل المتلقي على الاهتمام بها والبحث عن حلول لها فلا يبقى المتلقي مجرد مستقبل وإنما تحرك فيه رغبة الاكتشاف وتحفز فيه دافع الفضول لمشاركة المرسل في فك رموز الرسالة وقراءة ما تنطوي عليه من معان.
ومعد الرسالة قد يكون أديباً أو فناناً وقد يكون إعلامياً أو معلناً وما إلى ذلك وهو لا يعدم الموهبة وإلا ضاعت رسالته في الهواء.. أي كما يُقال تدخل من الأذن اليمنى لتخرج من اليسرى.
وأقل ما يوصف بها معد الرسالة أو مبدعها حيازته على قدرة عالية من المعرفة وامتلاكه تفكيراً خلاقاً.. وهي صفات تقربه من المبدع.
لكن كثيراً ما تلجأ الوسائط الإعلامية إلى إثارة السلوك الاتصالي عند المتلقي بدبلجة رسالتها مع وسائل وأساليب متنوعة تجذب المتلقي فلا تقتصر في مادتها على نقل المعلومة بل تقدم معها التسلية ومداعبة الخيال واستثارة الشهوات.. فتبتعد في مهمتها عن الموضوعية. إذ أن المشكلة الأخلاقية أو الفكرية لا تثيرها أداة الاتصال وإنما مصدر الإثارة فيها (مضمون الرسالة التي تحملها الأداة)( ).
وقد أولى أرسطو الأسلوب عناية خاصة ؛ حيث قابل بينه وبين المضامين ( أو ما يقال ) باعتباره جامعا لكيفية القول ونواحي الصياغة والعبارة ؛ لأن كثيرا من الناس" يتأثرون بمشاعرهم أكثر مما يتأثرون بعقولهم ، فهم في حاجة إلى وسائل الأسلوب أكثر من حاجتهم إلى الحجة ، وإذن لا يكفي أن يعرف المرء ما ينبغي أن يقال ، بل يجب أن يقوله كما ينبغي ".
ويفسر ذلك ديكرو قائلا:" إن القيمة الحجاجية لقول ما ليست هي حصيلة المعلومات التي يقدمها فحسب ، بل إن الجملة بإمكانها أن تشتمل على مورفيمات وتعابير أو صيغ ، والتي بالإضافة إلى محتواها الإخباري ، فهي تصلح لإعطاء توجيه حجاجي للقول وتوجيه المتلقي في هذا الاتجاه أو ذاك ". فإن القيمة الجمالية للعمل الفني، لا فيما يقوله في حد ذاته، إذ من الممكن صياغته بطرائق غير فنية أيضاً، ولكن في طريقة القول، فهو إذن "يستمد دلالته من وجوده، لا من حقيقة قبلية أو من معنى سابق عليه. ووجوده يتلخص في تأثيره، وهو يستمد حياته ومعناه من هذا التأثير، ومن استجابة الناس لـه"( ).ومن هذا المنطلق يجب الإقرار بوجود حجاج بلاغي يجد عناصره الأساسية في المعاني البلاغية كأدوات إقناعية مثل الشاهد والاستشهاد والحجة والدليل والاستدلال .ولذلك فقد طابق تيتيكا وبيرلمان بين البلاغة والحجاج في كتابيهما إمبراطورية البلاغة و"هذه المطابقة لها أهمية بالنسبة للمحتوى ...فالبلاغة لم تعد لباسا خارجيا للحجاج ، بل إنها لتنتمي إلى بنيته الخاصة." فهي لا تعني هنا المعنى الأسلوبي للكلمة . والبلاغة بعودتها هذه تدعو إلى إعادة النظر في مفهوم اللغة، وتدفع في اتجاه ينظر إلى اللغة على أنها خطاب، أي أنها شكل من أشكال الممارسة الاجتماعية. فاللغة جزء من المجتمع، وهي سيرورة اجتماعية، وهي مشروطة اجتماعيا بالجوانب غير اللغوية من المجتمع. والخطاب هو ما يتحدد بالبنى الاجتماعية، وماله تأثيرات على هذه البنى، ودور في تحقيق الاستمرار أو التحول الاجتماعيين.
ويضاف إلى ذلك أن عودة البلاغة تعني إعادة الاعتبار للبعد الحجاجي، والاهتمام بتقنيات الإقناع المؤثر، وعدم حصر البلاغة في الأسلوبي والشعري. والأكثر أهمية أن عودة البلاعة تدفع في اتجاه إعادة الاعتبار للتوجه نحو مفهوم نسقي للبلاغة، وهو مفهوم يرفض اختيار الفصل بين بلاغة الحجاج وبلاغة الأسلوب، لأنه لا يمكن أن توجد الواحدة دون الأخرى، والبلاغة تتألف منهما معا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق