تتميز المسألة الطائفية بكونها من أخطر المسائل القابلة للتوظيف والتكريس السياسي. وهذا بمعنى أنها تمس حياة الناس البسطاء وتضرب على وتر الخوف والعنف والدين. وهي بذلك تمثل خليط متفجر قابل للاشتعال الفوري بما يجعلها من أخطر وأقوى المسائل التي يمكن توظيفها سياسيا من قبل الأطراف صاحبة المصلحة في نشر الممارسات الشعبوية. والدليل على هذا هو ما رسب مؤخرا من وثائق تؤكد ضلوع نظام مبارك السابق في تأجيج الفتن الطائفية بغرض تخويف طوائف وفئات المجتمع من بعضها وتفعيل سياسية "فرق تسد". وهذه أمور مارستها أغلب النظم الاحتلالية والاستبدادية، بحيث لم تعد تحتاج لتدليل عليها بأكثر مما يرشح يوميا من الأخبار والأحداث من لبنان وسوريا مثلا.
لذا لا يجب أن نسمح لخطورة المسألة الطائفية بأن تموه أو تشوش على طريقة تفكيرنا حولها وتعاملنا معها. ذلك أن المسألة الطائفية تتميز بقدرتها الشديدة على إسكات التفكير العقلاني والمنطقي مقابل إعمال التفكير الإنفعالي واللاعقلاني. وهي بذلك تعد أداة قوية جدا لتحريك الجماهير للقيام بأتعس الأعمال وأشدها غباء.
ولذلك فقد تعمدنا هنا صياغة تعبير ("هستيريا" الطائفية)، بوضع علامتي التنصيص عند كلمة "هستريا" وليس عند كلمة "طائفية". وذلك حتى نؤكد أن التركيز هنا لا يكون على المسألة الطائفية في حد ذاتها، بل يكون على الهستريا الناجمة عن خطورتها، والتي ينتج عنها صعوبة التعامل معها بشكل عقلاني.
وأعني بهذا أن "هستريا" المسألة الطائفية تؤدي إلى إغلاق إمكانيات التعامل العقلاني مع المسألة الطائفية وتؤدي ضداً على ذلك إلى تغليب التناول اللاعقلاني والإنفعالي، وبذلك تصبح المسألة الطائفية أكثر خطورة مما هي عليه في حد ذاتها.
فمع المسألة الطائفية نصبح في "حالة" من الخوف تكون أشد خطورة من "موضوع" الخوف. ومن هنا يمكن أن نفهم مقولة: أنه لا يوجد ما يجب أن نخافه إلا الخوف نفسه. فالخوف (والتخويف) المصاحب للمسألة الطائفية يجعلها مزدوجة الخطورة.
وبذلك نصبح مع المسألة الطائفية أمام أنماط من التعامل والخطاب لا يمكن السيطرة عليها ولا التعاطي معها بشكل عقلاني.
الخطاب حول الطائفية:
لو حللنا أغلب الخطابات التي تحفل بها وسائل الإعلام المصرية حاليا حول المسألة الطائفية، فسنندهش من أنها لم تحقق أي قطع حقيقي مع الخطابات القديمة المماثلة قبيل ثورة 25 يناير. وهذا يؤشر لوجود اتصال واستمرار في الذهنيات والخطابات الموجودة على ساحة الإعلام المصري حول المسألة الطائفية.
ويمكن أن نلاحظ طغيان لنمطين أساسيين من الخطاب حول سبل علاج المسألة الطائفية في مصر، هما:
1- خطاب مدني "مثالي" سلمي يدور حول الترديد الكلامي لشعارات مثالية مثل "مسلم مسيحي إيد واحدة" أو "الدين لله والوطن للجميع" وغير ذلك مما يعبر عن نزعة شعاراتية مثالية تقوم على الظن المثالي الوهمي بأنه يكفي ممارسة "النفي الكلامي" للمسألة الطائفية حتى نجعلها تختفي من الوجود الفعلي. وهي مسألة لا تستحق أن نتوقف عندها بالنقاش أساسا، كون مثل هذه الممارسات "الشعاراتية" المثالية أقرب إلى أسلوب تحضير وصرف الأشباح منها إلى أسلوب التفكير العلمي.
2- خطابان عن "الردع" وهما يدعوان إلى ضرورة التركيز على الحل الأمني والبوليسي للمسألة الطائفية، حيث تدعو الشرطة والحكومة والجيش إلى "الضرب بقبضة من حديد" وتغليظ العقوبات واعتقال المشاركين في هذه الأحداث وإصدار أحكام بالإعدام عليهم، لأنهم يضرون بقضية أمن قومي .. وما إلى ذلك من مقترحات هي أمنية وبوليسية في جوهرها. وهنا يتفرع الخطاب الردعي إلى خطابين: ردعي بوليسي وردعي متبادل.
وسنركز بشكل حصري على خطابات "الردع" الأخيرة والتي نراها خطابات أشد خطورة من غيرها (الخطاب المدني المثالي). وخاصة أنها ظهرت على ألسنة شخصيات إعلامية مصرية شهيرة عبر وسائل الإعلام (مثل ضياء رشوان ونجيب ساويرس).
خطابان في "الردع":
تنطلق أغلب خطابات "الردع" من الفرضيات "الضمنية" التالية:
- أن الصراع بين الطوائف هو صراع حتمي لا بديل ولا مبدل له ولا يمكن علاجه أن تغييره أو منعه.
- لذا فالعلاج العنفي الأمني البوليسي القعمي هو العلاج الوحيد الفعال والمتاح، وذلك – وفقا للخطاب الإنفعالي - لأن الجماهير التي تسقط في ممارسات طائفية لا يمكن التعامل معها سوى بطريقة عنفية قمعية بوليسية، وهي لا تنصت لصوت العقل، بل يجب سجنها واعتقالها وتهديدها.
- أن العنف الطائفي يجب أن يقابل بسياسة "ردع بوليسي"، بحيث أن "الردع البوليسي" يجب أن يفوق "العنف الطائفي". وبذلك نصبح في مجتمع تقوم فيه العلاقات بين الطوائف على "الردع البوليسي". والجدير بالذكر أن هذا الحل "البوليسي" (بل والعسكري) هو ما يروج له ضياء رشوان الباحث المصري في شئون الجماعات الإسلامية.
- في حالة إنهيار البوليس (كما في مصر ما بعد 25 يناير) يكون الحل المتبقي هو "الردع المتبادل" بين الطوائف، وبذلك نكون في إطار "لبننة" للمجتمع المصري، (أي يتحول المجتمع إلى النموذج اللبناني حيث تقوم العلاقة بين الطوائف على سياسة الردع المتبادل) وهنا تنهار الدولة (وتفشل) ويصبح الصوت الأعلى هو للطوائف وحدها بصفتها الممسكة بزمام قوة الردع المتبادلة. والجدير بالذكر أن هذا الحل تحديدا هو ما سقط فيه الرأسمالي المصري نجيب ساويرس عندما لوح باستهداف المساجد ردا على استهداف الكنائس.
هذه فرضيات أساسية تكون دوما حاضرة وفاعلة في الخطاب "الإنفعالي" اللاعقلاني حول الطائفية، ولكن ذلك لا يعني أن أصحاب هذا الخطاب (الإنفعالي) يكونون "واعين" بهذه الفرضيات وفاهمين لمحتوياتها. بل على العكس. فربما كانوا غير واعين لما يطرحونه من حلول. وذلك لأنهم يمارسون خطاب "إنفعالي" دون وعي منهم. فهم غالبا عاجزون عن فهم أبعاد هذه الفرضيات أو فهم درجة حضورها في خطابهم الذي يروجون له داخل المجتمع. وهذه سمة أساسية في المسألة الطائفية – كما طرحنا أعلاه.
مرجعيات الواقع:
من الواضح أن المسألة الطائفية أصبحت تستحث "العقل" الإعلامي المصري على تبني ثلاث طرق للعلاج والتفكير بثلاث خطابات أو وصفات مختلفة للعلاج، هي:
- خطاب الشعارات المدنية المثالية
- خطاب الردع البوليسي القمعي
- خطاب الردع المتبادل المجتمعي
علينا أن نسأل:
من أين تنبع هذه الخطابات؟؟ ومن أين تستقي أفكارها؟؟ وكيف وصلت إلى الواقع المصري؟؟
ليس من الصعب أن نلاحظ أن منشأ الخطاب الأول (الشعاراتي) هو الفكر الليبرالي "الشعاراتي" (والذي سبق أن وصفته في مقال سابق بأنه يمثل تيار الجملة التنويرية) والذي ساد في عهد الساداتية في فترة السبعينيات في مصر، والتي تكفينا نتائجها الكارثية الخادعة عن الخوض في مناقشتها الآن.
أما الخطابان الأخيران (الردع البوليسي والردع المتبادل)، فيستحقان منا التركيز عليهما.
من المرجح أن هذا الخطابان (الردع البوليسي والردع المتبادل) ينبعان ويستندان إلى تجربتين عربيتين معروفتين، هما تجربة سوريا وتجربة لبنان.
المرجعية السورية:
الردع والقمع البوليسي والعسكري وهو ما تمثله الحالة السورية بامتياز، حيث ترى الطائفة العلوية الموجودة في سدة الحكم أنها تمثل الأقلية، وبذلك فمن المستحيل على الطوائف الأخرى القبول بها إلا من خلال ممارسة العنف والقمع. وبذلك تسقط الحكومة في ممارسة الإرهاب والقمع لبقية الطوائف.
المرجعية اللبنانية:
ما نجده في حالة لبنان هو حالة الردع أو القمع الطائفي المبتادل، حيث تكون لكل طائفة أسلحتها وجيوشها وتصبح الدولة في حالة فشل أو إنهيار، ويعلو صوت الطوائف وحدها حتى تصل إلى مرحلة من توازن الإرهاب الداخلي.
هذه هي المرجعيات النموذجية الواقعية العربية التي تستند إليها الخطابات المصرية الحالية حول المسألة الطائفية. وكما قلنا سابقا، من الجائز جدا ألا يدرك من يرددون هذه الخطابات ارتباطاتها هذه، لأنهم يتكلمون ويتصرفون بشكل انفعالي ولاعقلاني.
لكن من الضروري تماما أن نكشف مرجعيات هذه الخطابات كما نفعل هنا. لأن هذه المرجعيات تمثل بالضبط "المآلات" والمحطات الأخيرة التي تصل بنا إليها هذه الخطابات.
ففائدة الربط الذي نقيمه هنا مع المرجعية اللبنانية والمرجعية السورية هو كون هذه النماذج تبين كيف ستكون الحالة المصرية إذا ما سمح لهذه الخطابات بأن تسود العقل المصري، مع العز عن التفكير في بدائل أخرى.
في المحصلة، فإن هذه هي الإطارات المرجعية التي تستند إليها الخطابات المصرية حول سبل علاج المسألة الطائفية والتي نسمعها حاليا في الإعلام المصري، والتي نراها تمثل تكريسا واستمرار لنفس الحالات والنماذج "السقيمة" من التناول والفهم والإدراك والتي يجب أن نتجاوزها جميعا في مرحلتنا الحالية.
البدائل النظرية للتفكير في المسألة الطائفية:
إذا ما استعرضنا أنماط الرؤية والنظر والتفكير السوسيولوجي المتاحة لنا علميا الآن، فسنجد أمامنا بديلين أو نظرتين أساسيتين، هما: النظرة الماركسية والنظرة الليبرالية.
النظرة الماركسية:
أن الرأسمالية وفق النمط الموجود في مصر ولبنان كما حللها "مهدي عامل" في كتابه "مقدمات نظرية" وأسماه بنمط الإنتاج الكولونيالي هو نمط "إنتاج" في أرض الواقع وليس مجرد نمط "ثقافي" في سماء الفكر.
وذلك بمعنى أن البنية الاجتماعية والاقتصادية "السفلية" base يكون لها الدور الأهم وليس الحصري في تشكيل البنية العليا suprastrucutre التي نعني بها طبعا كل ما يتعلق بالثقافة وأنماط التدين والأيديولوجيا وحتى الثقافة السياسية.
لذا يجب الحرص دوما على مراقبة ورصد وفهم العلاقة بين البنية السفلية base والبنية العليا suprastrucutre لتحديد أيها هو السبب وأيها هو النتيجة
أو على الأقل فهم العلاقة الجدلية بينها بحيث نفهم كيف أن التغيير في البنية السفلية قد يؤدي إلى تغيير في البنية العليا أو إذا ما كان العكس ممكنا أم لا.
فنحن هنا أمام تمظهرين أساسيين: علوي يخص الفكر في مظاهر الثقافة والأيديولوجيا والتدين – وسفلي يخص الواقع في مظاهره من حيث نمط التنظيم الاقتصادي ونمط التنظيم الاجتماعي القائم في الواقع.
وبهذا يكون لدينا أربعة مظاهر أو عناصر وهي:
- الاقتصادي
- الاجتماعي
- السياسي
- الثقافي
ومن الواضح أن أ و 2 ينتميان إلى البنية السفلية base بينما ينتمي كل من 3 و4 إلى البنية العليا suprastrucutre
لذا فلو أردنا "تغيير" أي مظهر أو عنصر من هذه المظاهر الأربعة فالأفضل دوما أن نقوم بفهم علاقات تأثير وتأثر هذا المظهر ببقية المظاهر الثلاثة الأخرى. ومن هنا فقط يمكن تحديد الإجراءات والاستراتيجيات المناسبة لإجراء التغيير المأمول وتأمينه.
مثال عن الحل الجذري:
فمثلا لو كان لدينا شخص يعاني من مرض ما، فهنا لا يكفي أن نعالج أعراض المرض فقط، بإعطاءه مسكنات أو مضادات حيوية للقضاء على أعراض المرض. بل الأهم من ذلك هو أن نفهم أسباب إصابته بالمرض وكيف أصيب به. فمثلا هناك أمراض يصاب بها أناس يعملون في أنشطة محددة. مثل أمراض الربو والأجهزة التنفسية التي تصيب من يعملون في صناعات القطن والعزل والطوب ومن يسكنون في بيئات ترابية وصحراواية. وهنا لا يكفي أن نعالج أعراض المرض فقط، لأنها لن تفعل سوى تسكين المرض. بل لابد من معالجة "البنية السفلية" نفسها إذا أردنا القضاء على المرض.
طبق نفس هذا النمط من التفكير "الشمولي" على كل ظاهرة وستجد أنه علاج أي ظاهر أو تغييرها، إنما يتطلب علاج أسبابها وجذورها الموجودة في البنية السفلية، وليس فقط علاج أعراضها الموجودة في البنية العليا.
بل يقرر التفكير "الشمولي" أنه من المستحيل علاج أي مسألة دون علاج أسبابها. فعلاج الأعراض الموجودة على السطح لا يمكن اعتباره علاج، بل هو مجرد تسكين وعلاج مؤقت، ما يلبث أن ينتهي تأثيره لتعود المشكلة للظهور مرة أخرى، وربما بشكل أسوأ من قبل. وهذه مسألة مشهود بعلميتها في علوم الطب والبيولوجيا.
هكذا، فإن أردنا تقديم علاج لظاهرة الطائفية (في مصر مثلا)، فهناك نمطين من العلاج:
1- علاج جذري شمولي حقيقي يمتد لجذور وأسباب المسألة الطائفية في البينة السفلية (العلاقات الاقتصادية والاجتماعية القائمة) إلى جانب علاج الأعراض السطحية (الموجودة في البنية العليا) للمشكلة (العنف والأحداث الطائفية).
2- علاج مؤقت يؤدي إلى تسكين مؤقت وخادع للمسألة الطائفية وهو يكتفي بمعالجة الأعراض السطحية (الموجودة في البنية العليا) للمشكلة (العنف والأحداث الطائفية) فقط، دون أن يمتد لعلاج جذورها الموجودة في البنية السفلية التحتية المتمثلة في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية القائمة.
من الواضح أن الفرق شاسع ين الطريقتين في العلاج. وأن الطريقة الجذرية الشمولية هي وحدها الطريقة العلمية. بينما يمكن وصف الطريقة الثانية بأنها طريقة مخادعة وغير ناجحة.
من هذا المنظور السوسيولوجي العلمي يمكن أن نقول أن تكرر وإلحاح ظاهرة "الطائفية" وقيامها بإعادة إنتاج نفسها في المجتمع في أشكال متعددة مثلما في الأحداث المتكررة مثل الكشح والزاوية الحمراء ونجع حمادي وتفجيرات الكنائس .. كل هذا إنما يعبر عن أننا أمام "قمة جبل الثلج" والتي تخفي تحتها ما هو أفظع من مجرد القمة.
النظرة الليبرالية:
المدهش هنا من الناحية الفلسفية، أن مثال "جبل الثلج" هنا هو ذاته نفس مثال البنية السفلية و البنية العليا الماركسي ولكنه معبر عنه بطريقة ليبرالية.
فوفقا للتفكير الاستعاري (الأدبي) الليبرالي لا يظهر من "جبل الثلج" إلا قمته (البنية العليا)، والتي تبدو صغيرة وضئيلة فوق سطح الماء، بينما تختفي تحت سطح الماء بقية جبل الثلج (البنية السفلية) والتي تكون هائلة الحجم وأشد خطورة. ذلك لأنها تكسر قاع السفينة التي تقترب منها وتغرقها قبل أن تصل إلى قمة جبل الثلج، كما حدث في غرق تيتانيك.
وهنا يبدو أن الفكر الليبرالي تفق تماما مع الفكر الماركسي في تقسيم الأمور الخطيرة إلى قمة وقاع أي إلى بنية عليا وبنية سفلية.
إذاً فبينما يتظاهر الفكر الليبرالي برفض التقسيم والتمييز الذي يقيمه الفكر الماركسي بين البنية العليا والبنية السفلى، فإنه يقبل نفس هذا التقسيم والتمييز ويسمح به من باب خفي في الاستعارة الليبرالية المعروفة عن "جبل الثلج".
جميع ما سبق يعبر عن وجود اتفاق بين النظرتين (الماركسية والليبرالية) على أن العلاج الحقيقي هو علاج جذري شامل يبدأ من القاع (أو البنية السفلية) ويمتد إلى القمة (البنية العليا).
إذاً فلنبدأ في تشخيص المسألة الطائفية ضمن إطارها الواقعي، دون أن نسقط في مزايدات شعاراتية مثالية أو تحرفنا عن ممارسة التفكير العلمي وتسقطنا في ممارسة التهليل السياسوي الشعبوي الذي لم نعد نسمع غيره هذه الأيام.
فالأحاديث التي نسمعها اليوم تدور حول تشجيع وتغليب الحل "الأمني" و"البوليسي" للمسألة الطائفية. وهي بذلك تعاني من قصر النظر والعجز عن علاج جذور المشكلة وفقما شرحنا أعلاه.
تحليل التفسير السائد حول الطائفية:
فنحلل التفسيرات السائدة التي تحاول كشف أسباب المسألة الطائفية في المجتمع المصري المعاصر.
أغلب هذه التفسيرات ترى أن السبب الأساس في تفشي ظاهرة الطائفية في مصر هو "التدين" أو ارتفاع نسبة التعصب أو التطرف الديني في المجتمع المصري. لكن هذا التفسير أشبه بتفسير الماء بالماء. ذلك أن يفسر ظاهرتين ثقافيتين بأنهما ثقافيتين، دون أن يذكر أسباب غير ثقافية لهما.
بل ربما كان هذا التفسير خاطئ تماما. ذلك أن النموذجين المرجعيين اللذين أشرنا إليهما المجتمع وهما لبنان وسوريا يتميزان بتدني نسب التدين والتطرف الديني فيهما، إلا أن ذلك التدني في التدين فيهما لم يمنع من تفشي كافة مساوئ النظام الطائفي.
هذا يعني أن تفسير الطائفية بالتعصب الديني هو تفسير غير كافي بالمرة.
فرضيات التفسير السائد:
مشكلة هذا التفسير أنه يصور المسألة كما لو كانت أشبه برذيلة "فكرانية" يسقط فيها كل فرد بذاته حيث يتحول إلى "متطرف" لأنه اقتنع "بأفكار" خاطئة عن الدين، ما دعاه لأن يتصرف بطريقة خاطئة. وهذه التفسير يضعنا أمام نمط من التفكير الجوهراني الذي ينظر للتطرف كما لو كان مجرد ظاهرة فكرية (فكرانية) تحدث في ذهن الشخص.
وينسى أصحاب هذا التفسير أن الطائفية أو التطرف ليس محض "أفكار" بل بالأجدى هي ممارسة لها وظيفة اجتماعية ويتم توظيفها واستخدامها في نظام اجتماعي محدد بغرض تحقيق أهداف محددة. لذا فمن الخطأ النظر إليها كما لو كانت محض ممارسات "عبثية" "لاعقلانية" "إنفعالية". وذلك لأن مجال عمل الطائفية لا يقتصر على الخطاب أو على الفكر وحده بل يمتد إلى الواقع ويتوخى تغييره.
لذا فمن الخطأ التعامل مع الطائفية كما لو كانت مجرد اختيار شخصي أو خطأ حسابي أو محض "رذيلة" سقراطية يمكن تجاوزها بالإقناع والأحاديث الثقافية كما كان سقراط يفعل في محاولة تعليم اليونانيين الأخلاق
فهذا تصور أخلاقي عتيق لم يعد يصلح لمجتمعاتنا المعقدة والتي يختلف نظام عملها الرأسمالي الكولونيالي عن نظام المجتمعات (اليونانية) السابقة سواء العبودية أو الخراجية بلغة سمير أمين.
لذا لابد من فهم الطائفية والتطرف إنطلاقا من أسبابهما الاقتصادية والاجتماعية دون تحويلهما إلى محض موضوعات للوعظ الأخلاقي أو الديني أو الليبرالي الشعاراتي المثالي على طريقة سقراط.
ما التفسير الأقرب إلى الواقع؟؟
إذا انطلقنا من فكرة التمييز بين البنية العلومية (قمة جبل الثلج) وبين البنية السفلية (قاع جبل الثلج)، فلابد لنا من التمييز في المسألة الطائفية بين مجالين:
1- مجال الطائفية باعتبارها ممارسة أيديولوجية في حد ذاتها
2- مجال الطائفية باعتبارها ممارسة اجتماعية لها تأثيرات اقتصادية ومكاسب سياسية مستهدفة
وتصبح الممارسة الإجتماعية هي البنية السفلية الأساسية للطائفية (قاع جبل الثلج)، بينما تصبح الأيديولوجية (الفكرة) الطائفية بمثابة البنية العلوية للطائفية (قمة جبل الثلج).
وهنا يكون علينا التمييز بين جذور وأسباب المشكلة وبين أعراض ومظاهر المشكلة .. والتركيز على معالجة الأسباب الأساسية وليس تضييع الوقت في معالجة الأعراض والظواهر الهامشية غير المؤثرة
مزيج "ماركس – فيبر":
لنفسر طريقة عمل الطائفية باعتبارها ممارسة اجتماعية، فيمكن أن نجمع بين كارل ماركس وماكس فيبر معا. والفكرة هي إنه كما أن ماكس فيبر وجد علاقة سببية بين الأخلاق البروتستانتية وبين ظهور نظام الرأسمالية .. فيمكن تعزيز ذلك بأفكار ماركس حول دورة الفائض والتراكم الرأسمالي لتعمل داخل الجماعة الدينية المتخيلة. فنكون بذلك أمام نموذج مزيج من ماركس-فيبر، نضع فيه الجماعة الطائفية المتخيلة (فيبر) محل الطبقة (ماركس)، وتكون فيه آلية التحريك هي دورة رأس المال (ماركس) بدلا من الأخلاق الدينية (فيبر).
وبهذا يمكننا أن نربط المسألة الطائفية بالمرحلة الرأسمالية الكولونيالية التي تمر بها مصر (ولبنان وسوريا وأغلب دول المنطقة) حاليا.
والهدف من هذا الربط هو توسيع مجال الحلول المقترحة لتجاوز المسألة الطائفية، بعد أن شهدت أغلب الحلول الأخرى المعروفة فشلها.
فبدون علاج الجذور الاجتماعية المولدة للطائفية في النظام الرأسمالي الكولونيالي في مصر (وغيرها من الدول العربية)، فمن المستحيل - كما أزعم - إيجاد أي حل حقيقي للمسألة الطائفية .. بل سندور في فلك حلول أمنية "قمعية" مؤقتة لا قيمة لها.
تكمن مشكلة بنية التشكيلة الرأسمالية الكولونيالية في مصر في كونها غير ناضجة بحيث أنها لا تقوم على شركات ومؤسسات بل ما زالت تقوم على أفراد وأشخاص رجال أعمال يرتبطون بعلاقات ما قبل رأسمالية (إقطاعية) وطائفية مع المجتمع .. وهذا يؤدي إلى تفعيل دور الطائفة والشلة والقبيلة والروابط الجهوية مقابل تهميش دور الميرتوقراطية meritocracy (بمعنى أنه لو تقدم للرأسمالي الطائفي شخصين لهما نفس المهارات فإنه سوف يختار الأقرب لطائفته وقبيلته).
هذه التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الكولونيالية في مصر تؤدي حتما إلى إعلاء ثقافة الطائفية وإسقاط المشتركات الإنسانية الكونية بين الناس مختلفي الطوائف. وذلك لأن أهم آليات الرأسمالية تقوم على تركيم رأس المال وتحقيق فائض داخل إطار محدود بحدود الجماعة القومية والوطنية .. وهي الآلية التي أدت تاريخيا وسوسيولوجيا إلى نشوء المسألة القومية في العالم أجمع في نفس توقيت ظهور الرأسمالية.
فقيام القوميات تم مع ظهور الرأسمالية في العالم .. وذلك نتيجة لأن تفعيل المشاعر القومية يسهل عملية تركيم رأس المال وتحقيق فائض رأسمالي داخل الإطار القومي، بما يسهل إعادة استثمارها وتركيمها لتحقيق فائض قابل لإعادة الاستثمار في دورة لرأس المال داخل حدود الجماعة الهوياتية المتصورة.
لذا فطالما بقى النظام الاقتصادي في مصر على نفس النمط الكولونيالي التبعي الذي هو عليه من استقطابات بين رأسماليين مصريين يرفعون الطائفة فوق غيرها من الاعتبارات غير الطائفية .. فمن المؤكد أن تستمر الطائفية في النمو دون أي علاج جذري حقيقي.
كذلك طالما استمرت كل من الكنائس والمساجد في قصر وحصر أنشطتها ومميزاتها ودورها المجتمعي على أفراد طوائفها .. فسوف نشهد الاستهداف التخريبي لدورها من الطرفين .. وسوف نشهد المزيد من الحرق للكنائس وللمساجد أيضا .. وسيكون الحكم في هذا الصراع الدموي هو القوة العددية للأتباع في حماية كل دار للعبادة.
كيف تعمل الطائفية كآلية وممارسة مجتمعية في النظام الكولونيالي؟
يمكن أن نصف الوضع الاقتصادي لمصر في عهد مبارك بأنه وصل إلى مرحلة من "الخصخصة المفرطة" (وهنا يمكننا صك مصطلح hyper privatization). وهو وضع أدى إلى انهيار شبكات الأمان الاقتصادي للطبقات الكادحة المستحقة للدعم، بحيث أن فئات واسعة من الشعب المصري وجدت نفسها مهددة وغير ذات قيمة في ظل ثقافة سوق الخصخصة المفرطة، ما دفعها للبحث عن بديل غير اقتصادي لتحقيق حد أدنى من الأمان الإنساني.
فقد حدث انتهاك خطير لأرزاق الكادحين المصريين في فترة الخصخصة المفرطة بما نجم عنه فقدان حاد في الشعور العام بالأمان لدى مساحات واسعة من الطبقات الكادحة المصرية، بما جعل أفراد هذه الطبقات لا يجدون سوى التدين والتعصب الطائفي (لا كمحض فكرة ذهنية أو اختيار شخصي بل) بل باعتباره "ممارسة اجتماعية" تفيد في عمليات الحشد والتعبئة بحيث توفر شبكات أمان جهوية دينية تعوض النقص الحاد في شبكات الأمان المجتمعية المدنية، وتعمل كموحد مكثف للوعي الزائف الجمعي ضداً على فئات أخرى مختلفة يعتقد أنها السبب في نضوب موارد المجتمع وفي إفشال وتبديد دورة التراكم وتحقيق الفائض الرأسمالي داخل حدود الجماعة المتخيلة بفعل الطائفة أو المذهب.
ففي المجتمع الذي يتكون من جماعة (أ) وجماعة (ب) تكون المسألة هي أن الجماعة (أ) تأمل في تحقيق دورة تراكم وفائض رأسمالي ناجحة داخلها. ولكن عندما تفشل هذه الدورة التراكمية للفائض الرأسمالي، فإن الجماعة (أ) تلقي باللائمة على الجماعة (ب). ومن هنا تصبح الطائفية ممارسة اجتماعية تهدف للحشد والتعبئة ضد الجماعة الأخرى، بهدف إنجاح عملية دوران وتراكم رأس المال في شكل فائض احتكاري داخل الجماعة (أ) بشكل حصري. ومثل هذه الآلية التراكمية الرأسمالية الاحتكارية الهادفة لتحقيق فائض تكون مطلوبة ومأمولة أيضا داخل الجماعة (ب). وبهذا ينشأ تناقض تناحري بين الجماعتين، ويتخذ شكل "الطائفية" باعتبارها آلية اجتماعية هادفة لتخريب دورة رأس المال لدى الجماعة المقابلة، اعتمادا على مشاعر السخط الناجم عن فشل دورة رأس المال في تحقيق فائض أو تراكم بشكل احتكاري داخل حدود كل جماعة من (أ) و(ب).
من العجيب أن عملية التراكم وتحقيق الفائض الرأسمالي في النظام الكولونيالي مثلما في مصر ولبنان (وأغلب الدول التابعة) غالبا ما يكون مصيرها الفشل في تحقيق أي فائض حقيقي في رأس المال، وذلك نتيجة لتسرب الفائض الرأسمالي من دول الأطراف إلى دول المركز. وهنا تصبح الصراعات الطائفية مسألة حتمية الوقوع كتعبير عن السخط والإحباط الناجم عن فشل عملية تكوين الفائض داخل الدول التابعة.
ما الحل؟
لا تصلح الحلول "المثالية" أو الشعاراتية الليبرالية في التصدي للمسألة الطائفية. بل لابد أن يكون الجزء الأهم من الحل اقتصادي واجتماعي. وبذلك نصبح أمام شقين للحل:
شق اقتصادي اجتماعي:
ويعمل كما يلي:
- وقف عمليات الخصخصة المفرطة للمؤسسات المصرية.
- تحرير أرزاق الطبقات الكادحة المستحقة للدعم من سطوة رأس المال المملوك لأفراد شبه إقطاعيين (ينطلقون من أرضية طائفية تمييزية) يملكون القطاع الخاص في ظروف غياب خطير للقطاع العام.
- وإعادة مؤسسات القطاع العام التي تغطي مساحات هامة من شبكات الأمان الاقتصادي للطبقات الكادحة.
شق ديني ثقافي:
يتمثل في أن تقوم الكنائس والمساجد بالمساهمة في دعم شبكات الأمان الاقتصادي والاجتماعي بشكل غير تمييزي وغير حصري مقصور على أعضاء ديانة أو مذهب محدد، بل تقدم خدمات الدعم لكافة فئات وطوائف الشعب دون تمييز.
فمثلا ينبغي أن تقدم الكنائس والمساجد خدماتها المجتمعية (مثل المستوصفات والرحلات والاحتفالات والمناسبات والمحاضرات .. وغيرها) لكل فئات المجتمع المصري دون تمييز وفق الديانة أو المذهب.
لذا فمن الضروري أن يتم تحرير الأنشطة التي تمارسها دور العبادة (المساجد والكنائس) من الإنحصار داخل الاعتبارات الطائفية الضيقة، وأن يتسع نشاطها ليفيض عن مجال الطائفة التي تنتمي إليها بحيث تفيد المجتمع الذي توجد فيه ككل، مع ضرورة تحرير قوانين بناء الكنائس ودور العبادة بشكل عام، بحيث تتحول من مجرد دور عبادة قاصرة على أداء شعائر طقوسية موقوتة إلى أماكن وظيفية تقدم خدمات مجتمعية مطلوبة لكافة فئات الشعب. لكن مع وضعها تحت مزيد من متطلبات الشفافية والرقابة المجتمعية (سواء للكنيسة أو للمسجد).
ببساطة يجب أن تتحول دور العبادة إلى ممارسة وظائف اجتماعية تصب في صالح كافة الفئات دون أن تنحصر في طوائف بعينها.
فما المشكلة مثلا في إنشاء مراكز دينية مجمعة تضم مبان متجاورة للأقباط والمسلمين داخل نفس المجمع. وتقدم خدماتها المجتمعية دون تمييز مع إيجاد فاصل مؤقت في حالة إقامة شعائر وطقوس العبادة لكل ديانة. بحيث يتم إلغاء هذا الفاصل في حالة تقديم الخدمات المجتمعية غير التعبدية.
قد تكون هذه فكرة جريئة أو حتى متطاولة وفق البعض، لكن هذه الجرأة هي جزء من المطلوب هنا وهو: تجاوز الذهنية السائدة في التفكير في المسألة الطائفية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق