بعد كتابيه "الشيطان والعرش" و"كبش المحرقة" صدر عن "شركة رياض الريس للكتب والنشر" (بيروت) كتاب جديد للباحث فاضل الربيعي بعنوان "ارم ذات العماد - من مكة الى اورشليم: البحث عن الجنة".
في هذا الكتاب عن "ارم ذات العماد" التي عدت عبر الكلام الالهي، حقيقة تاريخية، يسعى الباحث فاضل الربيعي باسلوبه المبتكر الى اخراج مسألة "إرم" من حقل التاريخ والاسطورة موجها، بعد بحثه عن معتقدات وثقافة راسبة سحيقة عاشها مجتمع ما قبل الاسلام وعرفها بصورة من الصور، السؤال الآتي: لقد ضاع البدوي عبد الله بن قلابة في الصحراء، ولكنه عاد منها بسر المدينة المصنوعة من الذهب والاحجار الكريمة. فهل يمكن لنا نحن المعاصرين، ايضا ان نجرب المغامرة نفسها بوسائل اخرى ونعثر على مدينتنا الضائعة؟
قراءة للكتاب من صحيفة النهار اللبنانية : إرم ذات العماد، بقلم: ملحم رياشي
أقدم نص عن اسطورة إرَم يكاد لا يرقى الى أبعد من عصر معاوية بن ابي سفيان, وهو نص متكامل في بنيته وسرده, واهميته انه يبرز المسلم الفاتح, الذي اثاره مشهد المدينة المزدهرة وايقظ لديه في الوقت نفسه حنينا دفينا الى إرم المدينة الذهبية المطمورة في الصحراء, فلا يلبث ان يتذكرها في سياق تذكر أعم للاسلاف البعيدين والاسطوريين الذين بنوا مدينة عجائبية لم يُبن مثلها.
هل وجدت إرَم? واين كانت تلك المدينة في حال وجدت في تاريخ العرب البعيد ووصفها القرآن بـ"ذات العماد" ومنها عنوان الكتاب "إرم ذات العماد" الذي انجزه فاضل الربيعي? على خطى عبدالله بن قلابة, الخارج من عصر معاوية بن ابي سفيان بحثا عن مكانه الاول تحت ذريعة البحث عن ابله الضالة, يجدّ فاضل الربيعي باحثا في الصحراء عن مدينته الاسطورية إرم علّها تكون موجودة, فيسير بتؤدة في ثمانية فصول متنقلا في البحث عنها الى قراءة في الغازها وصولا الى الارض الموعودة.
ان تشريع الانتصار ورفعه الى مصاف الحقيقة المطلقة وما يليه من تحويل الانكسار الى درس اخلاقي هو ما يبرز في صراع مدينتين توأمين لم تنذر الاولى لله إثر بنائها بينما نذرت الاخرى.
ونظرة الاعجاب العربية والدهشة الى الشواهد العظيمة البابلية والاشورية والمصرية القديمة والرومانية, كما الى سائر الحضارات الاخرى, لا تتأتى من انها صنع البشر, بل صنع القوى الخارقة, فنذكر مثلا تدمر التي يفترض بعض الاخباريين والمفسرين انها إرم ذات العماد, ويزعم البعض انها سميت تدمر على اسم بنت حسان بن اذينة.
ويستمر العرض في السياق البحثي الاكاديمي الذي يجمع بين الرواية في عرضها القديم والهدف الذي يسعى اليه الكاتب, ونذكر للمثال الاسطورة العربية القديمة التي تتحدث عن "دومة الجندل" ولِمَ سميت كذلك وهي مدينة غير بعيدة عن تدمر تشبه في قصتها قصة إرم اذ ظهرت لاعرابي اسمه "الاكيدر" - يماثله في التوراة (كدر وهو احد ابناء اسماعيل) وهو ماض لزيارة اخواله في الشام. وكانت مطمورة في الرمال, مهدمة, لم يبق الا بعض جدرانها. واذ كانت مبنية على الارض تسمى الجندل غرس فيها الاشجار وسماها دومة الجندل. وقد تكون المدينة عينها الواردة في التوراة والتي ترد في السجلات الاشورية تحت اسم ادماتو. اما المغزى الاساسي من ذلك ففي الايقاع المتكرر للحلم ذاته: انشاء مدينة في قلب الصحراء او العثور عليها مطمورة في الرمال; ودائما ثمة اعرابي ولسبب عرضي تماما يبعثها الى الحياة. عندما ننظر الى الاسلام كعملية روحية وتاريخية عميقة تعيد كل تكييف ممكن الى مصدره القدسي, يظهر لنا ان آدم ثم ابرهيم هما اول من ردد الانصياع للدعوة الإلهية "لبيك اللهم لبيك", لذا لم يكن الاسلام في رأي المؤلف يلقى حَرَجا من العودة الى المعرفة المنسية واساطير الاولين, بل كان يحث على تطوير فهم أعمق لها. ومن هذا المنطلق, يبرز التعمق في البحث الاثنولوجي لمفهوم إرم بكونها مدينة قديمة مندثرة شبيهة الى حد بعيد بسدوم وعمورة من حيث انها عوقبت, لكن مع تفردها عنهما بان "لم يخلق مثلها في البلاد" [سورة الفجر], مما يعني انها كانت مدينة رائعة ومدهشة والنموذج الدائم للمدينة الحلم لدى العرب.
تبقى الذاكرة والحلم الجماعي الذي يعيد البدوي الرحالة بارض ينعم فيها بالاستقرار والثبات الدائمين, وتدر له لبناً وعسلا, حلم "جنة عدن" والتي تعني الانتقال من القحط (قحطان) الى اللحظة التاريخية المزدهرة في عدن (عدنان). وتلك الجنة لم تكن الا ارض كنعان في النهاية, وهي ارض العنب والتين والرمال [سفر العدد] التي امها اهل موسى واخذوا الخير منها كدليل على دخولها, تماما كما فعل بن قُلابة حين اخذ بنادق المسك من (إرم) وقدمها الى أبي سفيان كدليل على دخوله.
المتعة, المعرفة, لذة البحث الموثق اشد توثيق, هم الجري وراء حقائق قد تكون منسية بل ملتبسة, هي سعي فاضل الربيعي الدائم في التنقل على ناقته داخل بادية الكلمات لينقل الينا من المعروف والمتداول الجديد والمانع, فنبحث معه عن إرم ذات العماد, او ربما عن انفسنا!
===================================
===================================
0 التعليقات:
إرسال تعليق