الكتاب أطروحة دكتوراة في التاريخ الوسيط في جامعة تونس، ومن إصدار دار الطليعة للطباعة والنشر/بيروت، 1997 ويقع في 240 صفحة من الحجم الكبير.
لأول مرة يكتب باحث عربي مسلم في موضوع المسيحية العربية بهذا المستوى العالي من الروح الاكاديمية والدقة العلمية والتاريخية، وبروح موضوعية يندر وجودها في أمور تخص التاريخ او المعتقد الديني، لا سيما في الشرق. ويقوم الباحث بعمله من منطلق "ثراء التاريخ العربي المدهش" (ص 5) ومن منطلق أهمية الحياة الدينية عند العرب.
يحدد الباحث الفترة الزمنية التي يتكلم عنها، والتي تمتدّ من القرن الرابع (حيث بدأ يظهر وجود مسيحي منظّم في بلاد سوريا وفارس) وحتى القرن العاشر الميلادي. ويستثني بلاد مصر كون الهجرة العربية لم تشملها قبل الفتح الاسلامي وكون مسيحيي مصر الحاليين من العرب المستعربة. ويظهر في منتصف هذه الفترة حدث حاسم هو الاسلام، وهذا يحملنا على طرح سؤالين تمتد الاجابة عليهما طول الكتاب:
- ماهية المسيحية العربية وهويتها في التاريخ (القسم الاول)
- كيفية تعاملها مع الاسلام وكيفية تعامل الاسلام معها (القسم الثاني والثالث) (ص 7)
القسم الاول
المسيحية عند العرب قبل الاسلام
من مبدأ تنصرهم الى ظهور الاسلام
يبدأ القسم الاول بالرجوع الى أصل تسمية " عربي" في الفضاء والزمن التاريخي والى الديانات التي كانت شائعة عند العرب قبل الاسلام. ثم يتحول الى وصف * نشأة المسيحية وتطورها بين قبائل عرب الشام (15)، كون الشام مهد المسيحية. واول ملاحظة في هذا المجال - وتبدو مستهجنة لاول وهلة - هي ان العرب دخلاء على الشام وأن المسيحية دخيلة عليهم (15). ومع أن اول القبائل العربية التي سكنت بلاد الشام هي الانباط والتدمريون والتموديون والصفئيون، الاّ ان اول قبيلة دخلت المسيحية هي بنو قُضاعة (16). اما تاريخ ظهور المسيحية فليس واضحا قبل القرن الرابع بشكله القبلي المنظم، وهو أمر يتزامن مع تاريخ ظهور الكنيسة الملكية واليعقوبية والنسطورية. أضف الى ذلك ازدهار الحياة النسكية في بلاد الشام في الفترة عينها، حيث كان من أهم اعمال النساك الاعتناء بالناس (وبالأخص المرضى منهم) وتبشير الوثنيين (هيلاريون أسقف غزة). اما النظام الاسقفي فيبدو واضحا ابتداء من النصف الثاني من القرن الرابع. ومن هؤلاء الاساقفة من كان له وجود في المجامع المحلية والمسكونية (33). وأثناء القرن الخامس استمرت عملية "التنصير" بين القبائل العربية.
وبينما انتشر مذهب اليعاقبة في الشام ومذهب النساطرة في العراق بشكل عام، نرى أن اكبر القبائل العربية المسيحية (تنوخ وغسّان) في الشام تنصرت بشكل شبه شامل في القرن السادس، وكانت يعقوبية في اول القرن وتحولت الى المذهب الملكي (الاورثذكسي) - والذي كان شائعا بالذات في شمال سوريا - في نهاية القرن السادس. ويجب التنويه إلى أن بني غسان ظلّوا على مسيحيتهم حتى بعد الفتح الاسلامي (40).
وعلاوة على الكنائس "الرسمية" المذكورة، ازدهر ايضا في بلاد الشام عدد لا بأس به من الشيع المسيحية التي كانت تنكر عقيدة او أكثر من قانون الايمان المسيحي الرسمي. وأخيرا، يجب التوضيح أن دخول القبيلة في الدين المسيحي لم يكن ينطبق بالضرورة على جميع افراد القبيلة. فمنهم من كان يبقى على وثنيته (بني خذام، المطارنه، بني لخم) (45).
مختصر الفصل:
- كانت المسيحية غالبة على عرب الشام ابتداء من القرن الرابع
- ابتدأ الوجود المسيحي المنظم في بلاد الشام في النصف الثاني من القرن الرابع
- كان التنظيم الكنسي قويا في الشمال وكان يضعف كلما اتجهنا جنوبا (الجزيرة العربية)
- المسيحية العربية في الشام يعقوبية أساسا، الاّ انها بدأت تتأثر بالمذهب الملكي عند ظهور الاسلام (القرن السادس)
- كانت القبائل المسيحية في الشام من أشرف القائل العربية (غسان، كلب، سليح، تنوخ).
* نشأة المسيحية بين قبائل العرب في العراق قبل الاسلام(46).
مما لا شك فيه ان الحضور العربي في العراق قبل الاسلام هو نتيجة هجرات متتالية حدثت أهمها في بداية القرن الثالث. ومن اهم القبائل التي هاجرت سلالة التنوخيين واللخميين الذين هم ملوك الحيرة ابتداء من النصف الثاني من القرن الثالث. اما عن أماكن وجود القبائل العربية فكان معظمها في ريف العراق والجزيرة الفراتية (47). هذا لا ينفي ان قبائل أخرى هاجرت الى العراق في القرنين الخامس والسادس ايضا. اما عن طريقة حياتهم فكانت حياة البداوة في جميع مظاهرها.
هنالك اختلاف بين الدارسين حول تاريخ دخول المسيحية الى القبائل العربية في العراق. فمنهم من يقول ان ذلك حصل منذ القرن الثاني ومنهم من يعتمد منتصف القرن الثالث. والمؤكد ان بداية التبشير كانت على يد الاسرى الذين " جلبهم شابور الاول خلال حملاته الثلاث على الامبراطورية الرومانية الشرقية في سنة 241، 256، 259. وكان معظم هؤلاء الاسرى من المسيحيين اليونانيين وكان من بينهم أساقفة وبطاركة من انطاكية" (50). من التواريخ المهمة في حياة كنيسة العرب في العراق اعتراف الملك الفارسي بشرعيتها سنة 410، واستقلالها عن كرسي انطاكية سنة 424. اما عن معتقدها، فقد ابتدأت ملكية ثم تحولت عموما الى نسطورية،مع وجود قوي للمذهب اليعقوبي في أكثر من مكان.
كان لبرصوما أسقف نصيبين دور هام في تحويل عرب العراق الى المعتقد النسطوري، وأصبحت الحيرة (وغيرها كمنطقة الانبار والجزيرة الفراتية) معقلا من معاقل النسطورية، مع كنائس وأساقفة مؤسسات وعمل تبشيري واسع. اما ملوك الحيرة انفسهم فلم يدخلوا في المسيحية الا في بداية القرن السادس، وبالتأكيد حسب المذهب النسطوري (59).
اما اليعاقبة فعهد نشأتهم في العراق يقترب من مجئ الاسلام. وكان مرسلوهم من الاساقفة (الاسقف احودمه) والرهبان. وقد كانت كنيستهم منظمة تشمل اسقفيات منذ منتصف القرن السادس.
مختصر وضع المسيحية العربي في العراق هو انها:
- بدأت بشكل أكيد في القرن الرابع وكانت ملكانية.
- تحو لت الى نسطورية في القرن الخامس وبرز وجود يعقوبي قوي في القرن السادس، مع بقاء مجموعات ملكية خلال الفترة كلها.
- وفي كل هذه الكنائس كان التنظيم الكنسي قويا والاكليروس عربيا محليا منظّما.
- ومما ساهم في نشر المعتقد المسيحي في العراق - كما هو الحال في الشام - انها بدأت بأشراف العرب الذين ساهموا هم ايضا في نشرها بين اتباعهم.
* المسيحية في شبه الجزيرة العربية قبل الاسلام. (67)
ان كان من المؤكّد تاريخيا أن الدين المسيحي اخترق الجزيرة العربية، فتاريخ هذا الاختراق غير متفق عليه. هنالك مواقف - غير مدعومة بوثائق تاريخية - تُرجع ذلك الى القرن الاول. بيد ان : " الدراسات الجدية في هذا الموضوع تتفق على ان اول عمليات التبشير في اليمن - وهي اول مكان تمّ تبشيره من الجزيرة العربية - المرتكزة على أساس تاريخي صحيح تعود الى القرن الرابع: " (67-68). والظاهر ان الاريوسية كانت اول مذهب مسيحي عرف طريقه الى اليمن، بواسطة وفد ارسله الامبراطور البيزنطي (الآريوسي) قسطنسيون الى ملك حِمير (سنة 365). لذا نستنتج ان دخول المسيحية كان له علاقة بالتجارة البحرية البيزنطية في البلاد، وذلك يلقي ضوءاً -كونه اقتصر على السواحل - على مقاومته الضعيفة امام اضطهاد اليهود، مما ادّى الى خمود ديني مسيحي دام اكثرمن قرن.
وهناك رواية اخرى - نسطورية- لدخول المسيحية في اليمن وفي نجران بالذات، ورواية ثالثة للطبري ورابعة للأحباش. ومما يمكن تأكيده من كل هذه الروايات هو ان نجران من أقدم المراكز التي عرفت المسيحية في المنطقة، وذلك منذ بداية القرن الخامس وعلى حساب الوثنية واليهودية، لكنها لم تتغلّب على اليهودية، اذ بقيت مقهورة امام تقوّي هذه الديانة" (69).
ففي القرن السادس انتشر مذهب المونوفيزية في اليمن، فضعفت المسيحية، لا سيما مع اضطهاد الملك اليهودي ذي نواس للمسيحيين في اليمن. وهو اضطهاد رسمي ترك لنا نصوصا عن شهداء عرب، منها وصية الشهيد الحارث بن كعب لعشيرته : " ايها المسيحيون والوثنيون واليهود اسمعوا: اذا كفر أحد بالمسيح وعاش مع هذا اليهودي (ذو نوّاس) سواء أكانت زوجتي أم من أبنائي وبناتي أ م من جنسي وعشيرتي، فهو ليس من جنسي ولا من عشيرتي وليس لي ايّة شركة معه.وليكن كل ما أملكه للكنيسة التي ستبنى بعدنا في هذه المدينة. وإذا عاشت زوجتى او أحد ابنائبي وبناتي بأية وسيلة كانت، ولم يكفروا بالمسيح فليكن كل ما أملكه لهم ولنخصص للكنيسة ثلاث قرى من ملكي تختارها الكنيسة نفسها" (71).
توالى على اليمن حكم الحبش ومن بعده حكم الفرس. فما هو تأثير ذلك على المسيحية العربية فيها؟ ساهم وجود الحبش في انتشار الدين المسيحي انتشار ا واسعا، (القرن الخامس والسادس)، كما ساهم في نشر المذهب المونوفيزي، مما أضعف العلاقة بين كنيسة اليمن وكنيسة الشام. اما ولاية الفرس (597) فاتّسمت بالتسامح الديني كما اتّسمت بتسلّل المذهب النسطوري. وهكذا نرى ان تعدد مصادر التبشير بالمسيحية في اليمن أدّى الى وجود أكثر من مذهب (مونوفيزية وملكية ونسطورية) فأضعفها وقطع علاقاتها بالكنائس الام (مصر والشام والحبشة) لكنه في نفس الوقت ساهم في تنشئة اكليروس عربي محلي قاد الكنيسة الى ان ظهر الاسلام (77).
اما في شرق الجزيرة العربية (77)، فقد وردها الايمان المسيحي (النسطوري) من العراق، حيث وجد مركز اسقفي في قطر سنة 220 (78)، بينما بشّر الراهب عبد يشوع البحرين في اواخر القرن الرابع. وكذلك قل عن عُمان. ومما يجدر الاشارة اليه عن شرق الجزيرة العربية هو ان الكنيسة لم تتمكن من الانصهار في كنيسة عربية محلية مستقلة عن الكنيسة الام في العراق عند ظهور الاسلام (81).
وفي سط الجزيرة العربية (81)، للمسيحية وجود لا يعود الى قبل القرن السادس. وقد دلّت على ذلك ثوابت تاريخية، منها الكتابة التي وضعتها هند الكبرى بنت الحارث الكِندية في صدر ديرها حيث تفتخر بكونها : " أمَة المسيح وام عَبده (عمرو بن هند) وبنت عَبيده (الحارث بن عمرو بن حجر، ملوك كنده). بيد أن وجود المسيحية (النسطورية) في وسط الجزيرة العربية بقي منقوصا اذ لا يظهر اي تنظيم كنسي بين عرب نجد واليمامة (84)
اما في الحجاز، فيكاد يوجد اجماع على ان الدين المسيحي لم يدخلها. وان دخلها
فبشكل محدود وبين افراد اجانب لا عربا، وان وجد عرب فحالات نادرة جدا. وبالتأكيد لا مجال لتنظيم كنسي ولا لاكليروس عربي محلي.
نختصر الوجود العربي المسيحي في الجزيرة العربية قائلين أن:
* القرن الرابع هو تاريخ دخول الدين المسيحي الى بلاد العرب بشكل منظم.
* جري ا لتبشير على يد اساقفة وتجار ورهبان
* كان الوجود المسيحي ملموسا في الجزيرة عند ظهور الاسلام، لكنه لم يكن شاملا.
* كان المسيحون منقسمين الى أكثر من فئة ومذهب
* كان تنظيم الكنسية قويا في الجنوب والشرق وكذلك الاكليروس العربي.
* الشعائر والطقوس الدينية عند العرب النصارى قبل الاسلام (89).
المقصود هنا هو الوقوف على الهوية الدينية للمسيحيين العرب. يظهر من الوثائق التاريخية أنه كانت للمسيحيين العرب معرفة دقيقة بمقدمات دينهم وطقوسه، لا سيما عرب العراق والشام. فهناك اكثر من ذكر للقربان وللصلاة الجماعية يوم الاحد في الكنيسة (كثيرا ما تذكر نواقيس الكنائس في الشعر العربي القديم) والاتجاه نحو الشرق للصلاة وخميس الاسرار وأحد الشعانين والفصح. ومن الامور التي اشتهر بها العرب المسيحيون في تلك الفترة حب الصيام وبناء الاديرة والكنائس (لا سيما وان اكثر المسيحيين كانوا من اشراف القبائل) والزكاة (للكنائس والرهبان والفقراء والغرباء) وتكريم الصليب والرهبنة (97).
وفي نهاية القسم الاول من البحث، تقوم المؤلفة بتجميع زبدة المعلومات في نقاط مقتضبة:
= تعود النشأة الحقيقة للمسيحية العربية وتحوّلها الى ظاهرة في بلاد الشام والعراق والجزيرة العربية الى القرن الرابع. ويُعتبر القرن السادس الفترة التي دخلت فيها أكبر نسبة من العرب في المسيحية.
= تنصّر العرب عن طريق النساك والرهبان في الشام، والاساقفة والرهبان في العراق والتجار في الجزيرة العربية.
= كان تنصر العرب نتيجة جهود فردية لا نتيجة حملات تبشيرية منظمة - الاّ في بعض الفترات - وعلى يد الكنيسة النسطورية واليعقوبية.
= تنصّرت القبائل الحضرية اكثر من غيرها من القبائل، وابتدأ التنصر عند الاشراف وامتدّ الى العامة لكنه نادرا ما كان يمتد الى جميع افراد القبيلة بلا استثناء
= سيطر المذهب النسطوري في المراكز الحضرية في الجزيرة الفراتية والعراق والاطراف الشرقية للجزيرة العربية بينما سيطرت اليعقوبية على عرب الشام والجزيرة الفراتية واليمن. والى جانب هذين المعتقدين وُجد ايضا المذهب الملكي واليولياني والاريوسي. كل ذلك جعل كنيسة العرب كنيسة منقسمة.
= كان التنظيم الكنسي قويا في بلاد الشام (اساقفة واكليروس عربي) وكان ضعيفا في شمال بلاد العرب. وفي داخل جزيرة العرب كانت كنيسة النجرانيين والحميريين على قدر عال من التنظيم.
= بقيت الديانة المسيحية على المستوى القبلي ولم تتحول الى مستوى الديانة القومية عند العرب قبل الاسلام (99)، أي لم تتحول الى ديانة عربية متأصلة في العرب في كيانهم العقائدي وفي حياتهم اليومية وفي عاداتهم وتقاليدهم. ويعود السبب في ذلك لا الى عدم تفاعل العرب مع الديانة الجديدة (الدخلية) عليهم، بل الى الاخطار الخارجية التي أحاطت بهم والتي تتمثل أساسا في اليهود والكنيسة الملكية والامبراطورية البيزنطية (100).
القسم الثاني
المسيحية العربية في ظل الدعوة الاسلامية
1) الموقف القرآني من الديانة المسيحية (103)
القرآن هو المصدر الرئيس لمعرفة موقف الاسلام والمسلمين من الديانة المسيحية ومن معتنقيها. ويمكن الاطلاع على هذا الموقف من خلال ما يقوله القرآن عن المسيح وعن الانجيل وعن العقائد والطقوس المسيحية وموقف القرآن من النصارى، وأحكام النصارى في القرآن.
* المسيح والانجيل. يؤكّد القرآن دون التباس ان عيسى هو المسيح. وقد نسبت اليه هذه الصفة أحدى عشرة مرة. مع العلم ان القرآن لا يتطرّق الى تفسير معنى كلمة "المسيح". عيسى هو المسيح نبي الله ورسوله، اصطفاه من بين عباده وخصّه بالمعجزات وألهمه الوحي وبعثه رسولا داعيا الى التوحيد (105). لكن القرآن يعتبر ان الانجيل حُرّف ويتّهم عدّة أطراف بتحريفه. وهنا يجب الملاحظة ان عبارة "تحريف الانجيل" لم ترد صراحة في القرآن، ولكن أشير الى التحريف بألفاظ مشابهة (تكذيب، إخفاء، تصرّف، باطل (108). لذا، فالانجيل الذي يتكلم عنه المسيحيون يختلف عن الانجيل الوارد ذكره في القرآن.
اما دين عيسى حسب القرآن، فيتلخّص في أن "عيسى من (ملّة ابراهيم) جاء مصدّقا به، وبكل النبيين وبموسى وتوراته، مواصلا منهاجهم القائم على الدعوة الى التوحيد، مبشّرا بمحمد ورسالته. فدين عيسى - حسب القرآن - هو الاسلام ولا شئ غير الاسلام. فلا ذكر لدين اسمه المسيحية او النصرانية" (109).
* وفيما يختص بالعقائد المسيحية، فللقرآن موقف وردّ على عقيدة
- الثالوث: وهو أمر مرفوض تماما، والمقصود به مباشرة نفي الالوهية عن شخص المسيح، وغير مباشرة (عند بعض الفرق) عن روح القدس وعن مريم.
- التجسد: ليس عيسى ابن الله، والظروف العجائبية والتعابير الجليلة التي يزخر بها القرآن في وصفه المسيح ليس لها مدلول لاهوتي في سياق القرآن كما في المسيحية. فعيسى مولود ومخلوق وبشر كباقي البشر. (113) وما يقال عن عيسى يقال بحجة أقوى عن امّه مريم. نرى من هنا ان القرآن في ردّه على عقيدة التثليث قد تناولها من زاوية تعتبر ان المقصود بالثالوث ثلاثة ألهة، فضلا عن كونه اعتبر مريم، لا الروح القدس، عنصرا من عناصر ذلك الثالوث. " وإذا اعتبرنا ان عقيدة التثليث الرسمية في الكنيسة هي غير ذلك في عناصرها وفي مقصدها، فإننا نجد انفسنا مدفوعين الى التساؤل إن لم يكن القرآن تعرّض في نصّه الى الرد على بعض المعتقدات المسيحية التي واجهت بها بعض الفرق المتواجدة في الجزيرة العربية الرسالة المحمدية وليس على العقيدة المسيحية عامّة وبشكل منهجي وشامل؟" (115).
- الصلب والبعث (القيامة). ينفي القرآن موت المسيح وقيامته، وفي ذلك نفيٌ لأن يكون نبي الله عرضة لمثل ذلك المصير الشنيع. وبالرغم من البعد اللاهوتي و" الخلاصي" الذي يضمنّه المسيحيون لعقيدة " الفداء"، فإن القرآن يريد بنفيه موت المسيح على يد قاتليه ان يجعل قدرة الرب فوق إرادة البشر حتّى ان ما ظنّوه من صلب عيسى لم يكن سوى من باب ما شبّه لهم.
* الطقوس. منها ما يؤكّده القرآن (الصوم والزكاة والصلاة والمعابد وأماكن الحج) ومنها ما لا يذكره (القداس والقربان والمعمودية) ومنها ما يعارضه (الاكليروس والرهبنة).
* موقف القرآن من النصارى. النصارى في القرآن هم الذين يتبنّون رسالة عيسى وفقا لمبدأ التوحيد المطلق الذي أتى به القرآن. وبعبارة أخرى، هم المسلمون. (119). كيف يتعامل القرآن مع النصارى الوارد ذكرهم في القرآن؟ انهم أهل الكتاب وملّة ابراهيم ومدعوون لقبول رسالة محمد ذلك انه فيهم ما يؤهلهم أكثر من غيرهم لاعتناق تلك الرسالة (120). ثم انه مكانتهم أحسن من مكانة اليهود.
* احكام النصارى في القرآن. عومل المسيحيون في بعض الاحيان في القرآن بوصفهم كتابيون (لذا فرض عليهم دفع الجزية)، وفي بعض الاحيان بصفهم مشركين. كما يحل للمسلم الزواج من المسيحية (الكتابية) بينما لا يحق للكتابي ان يتزوج المسلمة. وفي نظر الكتاب لا يعود هذا التشريع الى نص قرآني واضح بقدر ما يعود الى موقف اجتماعي ذكوري يعتبر فيه الزوج محددا لمعتقد العائلة وخاصة البنين والبنات (125). ومن اهم الاحكام التي وردت في القرآن هي عدم اتخاذ المسيحيين واليهود " انصارا وحلفاء" من قِبل المسلمين ضد بعضهم بعضا.
خلاصة القول، اتّسم الخطاب القرآني تجاه المسيحيين بالتطّور من أسلوب الدعوة الى الاسلام عن طريق الحجة والمجادلة والترغيب (الدعوة الهادئة) الى اسلوب التحذير والتهديد، وفي آخر المطاف القتال في حالة رفض هؤلاء دفع الجزية. ولكن الاسلوب الثاني ليس ناسخا للأول.
2) وضعية المسيحية العربية في الفترة النبوية (127).
السؤال هو :" كيف عامل الرسول الجماعات العربية المسيحية؟ وكيف كان رد تلك الجماعات على دعوة الرسول لها (دبلوماسيا تارة وعسكريا تارة أخرى) حتى تدخل في الاسلام؟ (127)
* نصارى دومة الجندل (شمال الجزيرة العربية.) بدأ اتصال المسلمين بنصارى شمال الجزيزة العربية في السنة الخامسة والسادسة للهجرة. اسلم الكثير من بني كلب، بيد ان بعض بطون القبيلة بقي على دينه فدفع الجزية مقابل التعهد بضمان الامن.
* نصارى اطراف الشام الجنوبية. كان اتصال الرسول بأطراف الشام الجنوبية حربيا (من يهود ونصارى ووثنيين)، ذلك أن الهدف الرئيس من الاتصال كان تأمين الطرق التجارية الشمالية. وفشلت اول المعارك (سنة 6 - 9 هـ) ولم تسفر عن دخول الكثيرين في الاسلام.
* نصارى البحرين. انضم جميع مسيحيي البحرين العرب الى الدعوة الجديدة ولم يبق في البحرين مسيحي عربي واحد. لكن المسيحيين غير العرب بقُوا الى القرن السابع حيث اعادت الكنيسة النسطورية ترتيب امورهم. لكنهم انقرضوا عام 676. (132)
* نصارى عُمان. دخل بعضهم الاسلام وحارب معه (سنة 8 هـ) بينما بقي البعض الآخر على دينه ويقال انهم أجابوا رسول على بن ابي طالب : " نحن قوم نصارى، لم نرَ دينا أفضل من ديننا فثبتنا عليه".
* نصارى حميَر. دخل بعضهم الاسلام وبعضهم بقي على دينه. لم يتشدد الرسول في إجبارهم على ترك دينهم، بل أمر بأن " لا يفتن نصرانيا عن نصرانيته". ومن بقي على دينه دفع الجزية.
* نصارى نجران. نجران قبيله كبيرة وكان معظم افرادها يدينون بالمسيحية، وقد حاول الرسول ادخالهم بالقوة في الدين الجديد. ثم جاء وفد من اشراف نصارى نجران وأساقفتها فتحاججوا مع الرسول دون الوصول الى نتيجة. وتم الاتفاق على أن يبقوا على دينهم وأن يدفعوا الجزية بحسب معاهده كتبها الطرفان (وهي الوحيدة من نوعها). (136).
* نصارى تغلب. دخل القليل منهم الاسلام بينما بقي معظمهم على نصرانيته. ووقّع الرسول اتفاقا معهم يقضي بأن يبقوا هم على دينهم، دون ان ينصّروا اولادهم. وهكذا كان.
مختصر القول، لم تكن الفترة النبوية (6 - 10 هـ) مليئة بارتدادات المسيحيين (عدا البحرين). ذلك ان الرسول كان منشغلا بالوثنيين وباليهود الذين كانوا يشكلون خطرا أكبر، كونهم على رأي ايماني واحد، بخلاف المسيحيين. فالمسيحيون، وإن بقوا على دينهم، لم يحاربوا الاسلام كما فعلت قريش وكما فعل بنو اسرائيل (139). اما الاسباب التى ادّت الى دخول البعض في الاسلام فمنها القتال ومنها سطحية الايمان وقلة التنظيم.
بيد ان الرسول نجح تماما في إخضاع من لم يدخل الاسلام لسلطته وفي ابقائه في دائرة نفوذه. وهناك ملاحظة أخرى: يظهر ان الرسول كان يميل الى النساطرة من المسيحيين أكثر من غيرهم، كونهم يركّزون على طبيعة المسيح البشرية (141)
3) وضعية المسيحية العربية في فترة الخلافة الراشدة (11 - 40 هـ)
1. في الجزيرة العربية. حدثت موجة من الردّة بعد موت الرسول (بنو كلب)، لكنها فشلت، كما حاول البعض- دون نجاح يذكر - ابتداع دين جديد لمواجهة الاسلام (143). اما نصارى نجران الاقوياء، فقد قام عمر بن الخطاب بطردهم من الجزيرة استنادا إلى قول الرسول : " لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان". فسكن بعضهم الشام وبعضهم العراق (النجرانية). اما مسيحيو عُمان فقد دخلوا جميعهم في الاسلام في زمن الخليفة عثمان، الذي خيّرهم بين الاسلام وبين دفع جزية تقدّر بنصف املاكهم (148).
2. في العراق والشام.
في العراق، رفض اهل الحيرة الاسلام ورضوا بالجزية. ثم بدأ فقراؤهم يدخلون الاسلام كأفراد. (150). اما عرب جنوب العراق، فتكتلوا ضد الاسلام لكنهم هزموا، فمنهم من دفع الجزية ومنهم من أسلم ومنهم (الاسرى) من ضُربت اعناقهم. ثم عندما قامت الحرب بين الاسلام والفرس، حارب المسيحيون العرب الى جانب الاسلام (13 هـ). كما ان بعضهم (اياد وتغلب) فضّل الخروج من بلاد الاسلام والالتحاق بالروم كي يحافظ على دينه. لكن عمر بن الخطاب هدد ملك الروم بطرد باقي المسيحيين من بلاد الاسلام إن هو لم يُرجع من لجأ اليه، وهكذا كان. ثم أن عمر اعفاهم (تغلب) من الجزية وفرض عليهم الصدقة مضاعفة، على الاّ ينصّروا وليدا (154).
في بلاد الشام، بدأ المسيحيون العرب بمساندة الروم على المسلمين، لكن موقفهم تبدّل - على الاقل عند قسم منهم - عند المعارك الكبرى بين الروم والمسلمين، " فمنهم من حمى للعرب وغضب لهم، وكان ظهر العرب احبّ اليهم من الروم، وذلك من لم يكن منهم على دينه راسخا" (156). ثم اهتمّ الخليفة عمر بالعرب المسيحيين الذين هربوا الى بلاد الروم وسمح لهم بالعودة الى بلاد المسلمين إن هم اعتنقوا الاسلام. وهكذا، عجّل الفتح الاسلامي في تلاشي المسيحية العربية في بلاد الشام، بسبب اسلام البعض وهروب البعض الآخر الى بلاد أخرى. ولم تتمسّك بعقيدتها المسيحية الاّ الاحياء المتحضّرة من تنوخ وطئ وبني سليح وبني كلب (بسبب ارتباطها القديم بالمراكز السورية المسيحية - حلب وبعلبك وقنسرين -). كما ظلّت المسيحية في أحياء من بني كلب المنتشرة ببادية الشام (158).
من جهة أخرى حاول الاسلام فصل المسيحيين العرب عن المسيحية اليعقوبية، فطلب عُمير بن سعد، أحد عمّال عمر بن الخطاب، من البطريرك ان " انقل لي انجيلك الى لغة العرب ولكن لا تتحدّث فيه لا عن الوهية المسيح ولا عن المعمودية ولا عن الصليب والصلب" (160). لكن المحاولة باءت بالفشل.
وحصل أمرآخر مهمّ مع بعض مسيحيي العراق (قبيلة بني ناجية) الذين رفضوا دفع الجزية وانضموا - من منطلق قبلي - الى جانب الخريت في ثورتهم على عليّ بن ابي طالب." والله لَدينٌنا الذي خرجنا منه خير وأهدى من دين هؤلاء الذي هم عليه. ما ينهاهم دينهم عن سفك الدماء وإخافة السبيل وأخذ الاموال" (160). لكن قوات عليّ انتصرت فأرجعت المرتدّين من النصارى الى الاسلام ونفت المسيحيين العرب ليكونوا قدوة لغيرهم.
وللاختصار نقول:
- في زمن الخلفاء الراشدين، اختفت المسيحية العربية (لا المسيحية السريانية او اليونانية) من الجزيرة العربية وضعفت في بلاد العراق والشام. وقد حدث أكثر ذلك زمن الخليفة عمر بن الخطاب. اما طريقة حصول ذلك فكانت دخول البعض في الدين الجديد ورحيل البعض وترحيل البعض الآخر. بيد ان الاسلام لم يتمكن من السيطرة على بعض القبائل العربية المسيحية بأكملها (بني ناجية وغسان وكلب وبكر وايّاد وتنوخ).
>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>
لتحميل العرض كاملا لـلأب مارون اللحام .
>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>
لتحميل الكتاب:
http://www.4shared.com/document/ww4SbJ9T/___-___________-______-_.html
أو
http://www.mediafire.com/?jmnkglogkg1
0 التعليقات:
إرسال تعليق