الخميس، 16 يونيو 2011

مقال: من معضلات التأسيس في المجتمع الإسلامي... العربي بن ثائر


ترافِقُ تأسيسَ المجتمعات الإنسانية إشكاليات مختلفة تنبع من عوامل متنوعة ثقافيا واجتماعيا وسياسيا ودينيا... والناظر في حال تشكل المجتمع العربي الإسلامي يلحظ خصوصيات لم يشهدها المجتمع العربي في تاريخه القديم ما قبل الإسلام، ولا عرفها تاريخ مجتمعات أخرى مجاورة، ولعلها طبعت هذا المجتمع بميسمها على الدوام. فما هي أهم تلك المعضلات، وإلى أي حد مثّل بعضها على الأقل خصوصية معينة وميسما ثابتا؟  
لقد كان العرب المسلمون- في فترة التأسيس تلك - منشغلين بالدفاع عن دينهم، وبترسيخ دعائم المشروع الوليد؛ ما قبل-دولة . ولا شك في أن وجود الرسول(ص) بينهم كان العامل الأساسي في تماسك هذا المشروع، لكن الأمر لم يدم طويلا؛ إذ ما لبثت وحدة هذه الدويلة الوليدة أن تعرضت للأخطار الجسيمة بعد وفاة الرسول(ص) مباشرة؛ جاء في الروض الأنف: " قال ابن إسحاق: ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عظمت به مصيبة المسلمين فكانت عائشة، فيما بلغني، تقول: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ارتدّت العرب، واشرأبّت اليهودية والنّصرانية، ونجم النفاق وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم حتى جمعهم الله على أبي بكر" . فهل اجتمعوا عليه اجتماعا جامعا للشمل مانعا للفُرقة؟
يبدو أنّ جانبا مهما من معضلات التأسيس في المجتمع الإسلامي المبكر متمثل في خلاف جذري بين المسلمين حول السيادة الدينية المتصلة اتصالا وثيقا بالسلطة السياسية؛ حتى أن الخلاف العقدي في مفهوم الإيمان وعلاقته بالعمل سيرتبط شيئا فشيئا بمسألة الخلافة ، ولنا في  ذلك شاهد لأبي الحسن الأشعري  الذي يلخص الظاهرة قائلا: " أول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين، بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم، اختلافهم في الإمامة "؛ فعدّها الشيعة أصلا من أصول الدين، واقتضى هذا من بقية المذاهب الخوض فيها وإقحامها في مباحثهم الكلامية ، وبذلك أُدْرِجَت ضمن الأصول الكبرى: الصفات والتوحيد فيها، والقدر والعدل فيه، والوعد والوعيد، والأسماء والأحكام، والسمع والعقل والرسالة والإمامة . فباتت – إذن- إشكالية سياسية ذات أصول دينية.
 خلاف المهاجرين والأنصار  أول ما ظهر من بوادر الانشقاق في الجماعة الإسلامية كان قبل أن يدفن الرسول تحت ضغط مقتضيات المرحلة الجديدة التي تفرض اختيار خليفة له. كان ذلك الخلاف بين المهاجرين والأنصار، وكان كل فريق منهم يرى أنه أولى بالخلافة . واحتدم الخلاف حتى أنّ الحباب بن المنذر- أحد وجوه الأنصار- أطلق اقتراحه الشهير: " منّا أمير ومنكم أمير" . 
 ويستخلص من هذا الشعار أنّ استخدام مصطلح " أمير" يوحي بدلالة السلطة السياسية التي كان يتضمنها هذا المصطلح لدى العرب قبل الإسلام؛ فالحباب بن المنذر لم يستخدم مصطلح "خليفة" ذي المحمول الديني إلى جانب دلالته الزمنية، وكانت الرؤية عنده واضحة والمنطلق صريحا عندما أطلق عبارته الشهيرة تلك.  وأظن أن هذا الرأي يؤكده الدارسون الذين يعدون الشأن السياسي في الإسلام شأنا دنيويا لا دينيا، وفي مقدمتهم علي عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم؛ فقد شرح وجهة نظره تلك المستدلة على كون الخلافة إمارة دنيوية شرحا مفصلا. والرأي أن قطاعا كبيرا من المسلمين، بل لعله الأغلب، التبس عليهم مفهوم هذا المصطلح؛ أي الخلافة، فظنوه دينيا أول الأمر، ثم بات، على مر الزمان، دينيا -سياسيا معاً. فالواضح في المسألة أن التجربة التاريخية للحكم في الإسلام نشأت واستمرت وفيها ازدواج إن لم يُقل لبس وغموض في فهم وظيفة الخليفة، فكانت-بذلك- مثار جدل. وانعقدت في غمارها الأحلاف وتشكلت بسببها الأحزاب ونشأت من جرائها الفرق وصيغت للمنافحة عنها والمجادلة فيها المقالات؛ فلا غرو- إذن - أن تكون الخلافة، أو الإمامة أو الإمارة، أم المسائل في علم الكلام والنّظريات العَقَدِيَّة، ومدار الصّراع الفكري أو الحربي على مدى تاريخ الأمة. لقد حُسم الخلاف بمبايعة أبي بكر الصديق على الخلافة بعد أن قالت الأنصار: " نحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، وقد دفت دافة من قومكم. قال: وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر" . فردّ أبو بكر قائلا: " أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل. ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا؛ وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم"... ويقول عمر بن الخطاب: " وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، ولم أكره شيئا مما قاله غيرها... فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته، ثم بايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار". بيْد أنّ فئة من المسلمين ظلّت ترى أنّ الخلافة يجب أن تكون في آل بيت الرسول ، أي في بني أبي طالب من هاشم، وهم أفضل قريش عندهم. وتُعَدُّ هذه الجماعة من المسلمين النواةَ الأولى للشيعة، التي لم تصبح حزباً سياسياً-دينياً إلا في وقت لاحق، فقد ظلت تلك الجماعة تعتبر علياً أحق الثلاثة بالخلافة وأولى بها منهم. وقد بات معلوما أن مصطلح الشيعة هذا الذي يعني لغة "الأتباع" أو "الأنصار"، يقصد به اصطلاحا أنصار عليّ بن أبي طالب في أحقيته بالخلافة.
حروب الردة: 
إن حسم النـزاع الداخلي على الخلافة – وقتتئذ- لم يكن نهائياً، وإنما كان إجراءً مرحلياً مؤقتاً، فرضته الأخطار التي كانت تهدِّدُ الجماعة الإسلامية في وجودها نفسه. وقد ظهرت هذه الأخطار إثر ارتداد بعض القبائل العربية عن الإسلام. ويبدو أن هذه القبائل كانت قد أسلمت بعد انتصارات الرسول المتعاقبة، ولكنها لم تكن قد آمنت بكل ما في الإسلام من قيم، فقد جاء في سورة الحجرات: ﴿ قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ (الآية: 14). والأغلب أنّ لفظة "أسلمنا" في هذه الآية جاءت بمعنى الإقبال خوفا أو طمعا: فما أعراب بني أسد -الذين ذكرهم النيسابوري مثلا في أسباب نزول هذه الآية- سوى نموذج من أولئك الذين آمنوا ثم طلبوا الصّدقة عند أوّل جَدْب أو خَطْب وما شاكل ذلك من عثرات. والمغزى أنَّ تلك القبائل كانت ترى في خضوعها للرسول– وهو القوي العزيز بتلك الانتصارات الباهرة - خضوعًا لقبيلة قريش، وأنها قد فعلت ذلك اتقاء القتل ورغبة في الصدقات أو المغانم. في نهاية صفر من سنة إحدى عشرة من الهجرة، مرض الرسول مرضه الأخير، وجاءت أخبار الردة في وقت واحد. وكان الرسول قد أمر أسامة بن زيد بتجهيز حملة إلى الشام (البلقاء والداروم من أرض فلسطين) فأربك مرض الرسول البعثة وترددت في تحركها بعد أن هب ثلاثة يدَّعون النبوة: "الأسود العنسي" في اليمن، و"مسيلمة الكذاب" في اليمامة، و"طليحة" في بني أسد.  واحتار المسلمون بعد انتشار خبر مرض الرسول  وتواتر أخبار الردة أي أمر له الأولوية: فتح الشام أو مكافحة الردة. وحسم الرسول الأمر وهو على فراش المرض، فخرج عاصباً رأسه، من شدة الصداع، وأمر بإنفاذ جيش أسامة، وأرسل نفراً من الأنصار في أمر الأسود العنسي.
 خطر جسيم وفرصة نادرة للتوافق:  
لما مات الرسول، ودبَّ الخلاف بين المهاجرين والأنصار، كانت قبائل أخرى أيضا قد رجحت – كما أشرنا-أن ما كان بينهما لا يعدو أن يكون حِلْفًا مثل تلك الأحلاف التي تُعقَد وتُنقَض منذ عهد ليس ببعيد. ولمّا طالب الخليفة الجديد – أبو بكر الصديق– بالجزية، وظنت تلك القبائل أن شوكة الإسلام قد كُسرت ورياحه قد ذهبت، نَقَضَتْ العهد كما لو كانت تنقضه مع أي قبيلة اهتزت وحدتها أو أحلافها حتى لو كانت قريش نفسها.  
وكان على الخليفة الأول أن يتخذ موقفاً من تلك القبائل، وقد استطاع أن يقضي على هذا الخطر بعد معارك دامية دارت بين المسلمين وبين هؤلاء المرتدين. فالإسلام، وهو يدعو البشر أن يسعوا في نشره، خصص نصره للمسلمين بشرط أن ينصروه هم أولا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد الآية: 7)؛ ولهذا أطلقت على الحرب عامة تسمية الجهاد، فجمعت بين ثلاثة أبعاد مجتمعة: فهي أساسا من أجل الله ودينه، وهي أيضا بأمره وتأييده، وهي كذلك تحت حمايته المشروطة، مقننة بشريعة وفقه يحددان أحكام الأسر والقتل والسبي والغنائم...إلخ، وبذلك يتحقق المظهر الثالث: أي ضمان المكافأة الدنيوية والأخروية.   هكذا بدأت هذه الحروب سنة (11هـ– 13هـ/632م– 634م) وارتدت معظم القبائل عامة إلا قريشاً وثقيفاً، واشتد أمر مسيلمة -المسمى الكذاب- وطليحة الأسدي، وارتدت غطفان تابعةً لـ"عيينة بن حصن". إنه حَدَثٌ من أعقد حوادث التاريخ: إنها حالة كفر جماعي، وتمرد لم يُرْصَدْ مثله في التاريخ العربي؛ إذ إنه لمن الملفت للانتباه أن يكفر مئات الآلاف بمجرد موت الرسول، فكتب التاريخ تحفل بقصص كثيرة لمَقاتلهم وذلك لأسباب متعددة  مثلما سيأتي –بإيجاز- لاحقا.
هل الزكاة صورة أخرى للجزية؟  
لقد تراءت الزكاة عند القبائل المرتدة بعد موت الرسول صورة أخرى للجزية التي كانت تأخذها القبائل القوية من القبائل الضعيفة ؛ إذ ظنت  القبائل، على نطاق واسع، أن الرسول مخلَّد، فلما مات شكّوا في النبوة وأعادوا النظر فيها معتقدين أنه لو كان نبياً ما مات، لذلك لم يعد ثمة مبرر مقنع عندهم أن يُخلع على ضريبة الجزية هذه معنى الزكاة الديني المقدس كما جاء في القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة. ويمكن أن نضيف إلى قضية الزكاة سببا اجتماعيا آخر يُرى عند بعض الدارسين وجيها وهو انزعاج القبائل العربية من السلطة المركزية في المدينة وخاصة الرسل الذين يُعلّمون الناس أصول الدين ويجمعون الزكاة. وقد كانت هذه القبائل تمقت الغريب ولا ترضى بسيادته عليها حتى ولو كانت تلك السيادة مبررة بدعوى دينية ومستندة إليها. 
ثم إن بعض القبائل لم تمتنع عن أداء الزكاة فحسب، بل رفضت ما آلت إليه أحداث سقيفة بني ساعدة- من إسناد الخلافة إلى أبي بكر وحجْبها عن علي بن أبي طالب- رفضا كليا؛ فشكَّلت بذلك خطراً جسيماً على الحكم المركزي. ولعل هذا ما جعل الخليفة الجديد يشتد على الجميع: مانعي الزكاة، ومبطلي الصلاة، ورافضي خلافته.   إن إصرار أبي بكر على المواجهة المسلحة كان دافعه، كما يبدو، القضاء على كل تمرد قد يوحي بالاعتراض على تنصيبه خليفة للمسلمين، من جهة، وشَغل أو تأطير الرأي العام المدني والمكي بحوادث خارج مكة والمدينة تخفف من وطأة النقاش حول شرعية الخليفة الجديد وأهليته، وتوجههم نحو مشكلة أهم هي الدفاع عن وجود الإسلام وبقائه من جهة أخرى؛ فقد أوردنا أعلاه الشاهد من قول عائشة: "...صار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم - صلى الله عليه وسلم - حتى جمعهم الله على أبي بكر" .  
وقد سبق أن ذكرنا أيضا ظهور أشخاص ادَّعوا النبوة وأشهرهم مَسلَمة- الذي دعاه المسلمون مُسيلمة من باب التصغير والتحقير- وقد تأثر ببعض التأثيرات الفكرية المسيحية، واتبعه بنو حنيفة ([1]). وكذلك سجاح التميمية من بني يربوع التي كانت تدَّعي الكهانة وتحالفت مع مالك بن نويرة ثم لقيت مسيلمة وتزوجته.   لقد كانت قراءة أبي بكر لكيفية مواجهة هذا الحدث مستندة إلى الحديث النبوي: « حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِىُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٍ الْحَرَمِىُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبِى يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – قال : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» . (نفسه، ص 85 ).
 مقاربات محاربة المرتدين؛ مبطلي الصلاة ومانعي الزكاة ورافضي الخلافة:
إن هذه الحروب، بدورها، قد أثارت جدلا واسعا بين الصحابة عامة، وكادت أن تؤدي إلى شقاق بين المهاجرين أنفسهم، بعد أن حدث بينهم وبين الأنصار ما حدث ممّا سبق بيانه، حتى إن عمر بن الخطاب - ذاته - عارض المقاربة التي توخاها أبو بكر أول الأمر، فحتى إنْ ظهرت في أيامنا مقاربات حديثة ترى أن النصوص تبيح للمرء أن يختار ما يشاء من عقائد وهو مسؤول، بالتالي، عن اختياره أمام ربه لا أمام العباد، وأنه يفهم من ذلك أيضا حقه في التراجع عن الاختيار أو تغييره، فمن الضروري في هذا الصدد أن نتبيّن أن ذلك الجدل وتلك المعارضة بين المسلمين – وقتذاك- لم يكونا من أجل مبدأ الحق في الارتداد نفسه؛ فالمرتد يستحق أن يقتل، طبقا لحكم الشرع الإسلامي أو هكذا فُهِمَ على نطاق واسع، وهكذا ترسّخ في وجدان الأغبية على مدى التاريخ الإسلامي أيضا،أما الرؤية المستقرة في الأذهان والوجدان الجمعي فإنما تستند إلى الحديث النبوي: « مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ». وعلى أية حال، فقد كان رفض عمر بن الخطاب الحرب من أجل مانعي الزكاة الذين بقوا على إسلامهم ورفضوا أن يعطوا الجزية لأبي بكر، ولم يكن من أجل العودة عن الدين.  
 إن عمربن الخطاب- على الرغم من اتصاف بالشدة- قد استطاع أن يلحظ الفرق بين الفريقين – رافضي الصلاة ومانعي الزكاة- في الدوافع وبالتالي في أسلوب المواجهة. ولم يستوعب فكرة المواجهة المسلحة لكلا الفريقين؛ بسبب التمايز في الدوافع بين الأسلوبين. ولمحاججة أبي بكر والضغط عليه، استشهد عمر بحديث للرسول يؤيد دعواه لعله بذلك يستطيع ثني أبي بكر عن المواجهة المسلحة مع مانعي الزكاة، جاء عند البخاري: «حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِى حَمْزَةَ عَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -« أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ ».   غير أن منطق أبي بكر هو الذي ساد في نهاية الأمر، فقد َقَالَ قولته الشهيرة: «وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِى عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ .
 وإلى هذه المقاربة عاد عمر بن الخطاب وآل موقفه:  « فَقَالَ (عُمَرُ): فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ» .
ومثلما كان لتلك الردة دواع مختلفة، كان لها أيضا أسباب فشل كثيرة تتلخص أهمها في تفرق صفوف المرتدين، وكثرة زعمائهم، وضعف خططهم العسكرية، وفشلهم الذريع في استغلال فرصة خلو المدينة من الجيش الإسلامي، واعتمادهم على النزعة القبلية البالية.

 أزمات الخلافة الراشدة وبوادر ظهور الفرق والمذاهب:
 لقد كانت أحداث سقيفة بني ساعدة وحروب الردة أزمات عميقة في المجتمع الإسلامي بما في ذلك مكة والمدينة، ولكنها كانت كالسهم الذي يقوي الجسم حين لا يصيب مقتلا؛ فقد أعادت تلك الحربُ المهاجرين والأنصار إلى شيء من الوحدة ولو مرحليا، ومنحت الفرصة للقوات الإسلامية للاشتراك في معارك كبيرة، فاختبر المسلمون مدى نجاعة قواتهم وبعض قادتهم أمثال خالد بن الوليد، وبذلك تكون هذه الحروب قد فتحت آفاق الجيوش الإسلامية للانطلاق خارج الجزيرة والبحث عن مصادر انتشار أخرى، ولكنها أسفرت عن وفاة كبار الصحابة وكثير من حفظة القرآن الكريم؛ ففي معركة "حديقة الموت" التي قُضي فيها على مسيلمة، توفي من الأنصار والمهاجرين سبعمائة رجل.  
ومن نتائجها السلبية- وإن كانت غير بارزة للعيان -أنها أعادت جذوة الصراع إلى الداخل، فعادت قضية الإمامة إلى الظهور من جديد، على الرغم مما يبدو من قبول شبه عام بخلافة عمر بن الخطاب،  فقد أُثر عن عمر نفسه أنه قال في أبي بكر يوم أن بويع بالخلافة: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب مَنْ بعدَهُ؛ إذ يستشكل بعض المسلمين توريث أبي بكر الصديق الحكم إلى عمر بن الخطاب، وكان هذا أول توريث للحكم في الإسلام. ولكن يحسب لعمر بن الخطاب أنه جعل الخلافة شورى بين عدد محدد.   إلا أن أمر الخلافة - أو إمارة المؤمنين كما أضحت تسمى أيضا في فترة خلافة عمر، أو كلقب لعلي بن أبي كما تعتقد طائفة المسلمين من الشيعة على أنه هو أول من لقب بأمير المؤمنين – سيتأزم بعض التأزم؛ إذ رفض علي بن أبي طالب شروط عبد الرحمن بن عوف رفضا قاطعا عندما طالبه – في أثناء المشاورة بين الستة الذين نصبهم عمر بن الخطاب- أن يكون خليفة للمسلمين بشرط العمل بسنة الشيخين (أبي بكر وعمر)، وقال بأنه سيعمل بسنة الله ورسوله.   وآل الحكم، بالتالي، إلى عثمان بن عفان الذي قبل بشرط عبد الرحمن بن عوف والعمل بسنة الشيخين. ولم تحلّ تلك الأزمة، فظلت جماعات تدعو إلى أحقية عليّ بن أبي طالب في الخلافة وتؤيده، وجماعات أخرى تنكر ذلك وتعارضه... ثم إن أمر الخلافة سيستفحل بعد مقتل عثمان. فما الأسباب التي أدت إلى مقتله؟  
 لقد وُجِّهت لعثمان بن عفان تهم عزل الولاة من الأنصار الذين عينهم عمر بن الخطاب  وفي المقابل تولية أقربائه عوضا عنهم،وأنه عاملَ مساعديه ورعيته معاملة سيئة إلى درجة الضرب، وأنه أنفق على نفسه وذويه من بيت مال المسلمين ، وأنه لجأ إلى أسلوب السجن الفعلي أو النفي؛ فممن نفاهم الصحابي أبو ذر الغفاري، وأنه أذن لعمّه الحكم بن العاص بالعودة إلى المدينة بعد أن طرده الرسول لشتمه إياه. وأنه منح كبار الصحابة الإذن بامتلاك الأراضي وسمح للأغنياء بدفع الزكاة التي يرونها مناسبة لهم، وأنه سمح بانتشار مظاهر الترف واللهو في المدينة بدلا من تلاوة القرآن، وأنه وقع تحت نفوذ أقاربه، ومن أدقّها وأعوصها  أنه حذف وحرف آيات من القرآن الكريم منها ما قيل عنها أو فهم أنها في ذم الأمويين، فهل كانت دافعا من دوافع ما عرف بقضية حرق المصاحف؟    ولما آلت الخلافة إلى عليّ بن أبي طالب، لم تكن البيعة شاملة: ففريق بايع ووالى، وفريق أعرض وخاصم، وفريق - في أثناء ذلك ومن بعده -عارض ونقض؛ فبينما بايعته شبه الجزيرة العربية والعراق ومصر، امتنعت من ذلك ولاية الشام التي كان معاوية والياً عليها...وبقيت الأمور بين مدّ وجزر حينا من الزمن أصدر بعده علي أمرا بعزل معاوية بن أبي سفيان، فرفض التنحي عن ولايته بل أقدم على منزاعة علي بن أبي طالب الحكم حين خرج مطالبا بدم عثمان وعينه على الخلافة. وبلغ النزاع أوجه في ما يسمى بالفتنة الكبرى أو معركة "صفين" التي انتهت بتحكيم أدى إلى خلع عليّ بن أبي طالب من الخلافة .   ولم يقبل بهذه النتيجة فئة ذات بال من جماعة عليّ كان على رأسهم "عبد الله بن وهب الراسبي"، وطالبوه بالرجوع عن التحكيم، ولكنه رفض طلبهم؛ لأنه كان قد تعهد بقبول نتائج التحكيم. وقد انشق هؤلاء عن جيشه وتبنوا شعار "لا حكم إلا لله"، الذي أصبح أهمّ منطلق عقدي عندهم. وقد عُدَّ هذا التيار خارجيا عند أشياع معاوية وعلي، في حين سموا أنفسهم "المحكِّمة" وأطلق عليهم أيضا "الحرورية" لتجمعهم في حاروراء أو أهل النهروان لاحقا نسبة إلى مكان المعركة التي كاد علي بن أبي طالب أن يبيدهم فيها، وهذا تكونت الفرقة السياسية-الدينية الثانية بعد الشيعة.
 خاتمة:
يمكن القول- إذن- إن دوافع ذلك الخطر الجاثم، المتمثل خاصة في ظهور الردة، والانقسام بين الأنصار والمهاجرين، ثم ظهور الفرق الإسلامية، قد كانت نابعة، على أغلب الترجيحات، من العصبية القبلية  كشأن اجتماعي راسخ في البيئة العربية منذ مئات السنين؛ حيث كان العرب حديثي العهد بالإسلام، وظلت المفاهيم والقيم والأعراف القديمة ذات تأثير قوي في سلوك كثيرين منهم إن لم تكن الأغلبية الساحقة، وإلى جانب ذلك فإن تلك الدوافع كامنة في مرام سياسية جديدة، غضة ومتوثبة في تلك الفترة، غذتها رؤى عقدية وطموحات فردية ستتبلور شيئا فشيئا في مسار تصاعدي غالبا، يتّسم بالصدام والتصدع العميقين ويتسربل بالفتنة والمحنة والمأساة على مر السنين، وتفرق الميول، وتعدد المشاريع المجتمعية.    

قائمة المصادر والمراجع:
(محمد أبو الفضل) إبراهيم والبجاوي(علي): أيام العرب في الإسلام، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، مصر، 1961 .
الأشعري (أبو الحسن): مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين، تح. محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط1، 1950.
ابن الأثير(عز الدين): الكامل، المطبعة المنيرية، القاهرة، 1357هـ. 
الباقلاني (أبو الطيب): التمهيد في الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة، دار الفكر العربي، القاهرة 1947، وبيروت1957.
البخاري (محمد بن إسماعيل): صحيح البخاري، بهامشه حاشية السندي وبتمامها وتقريراتها من شرحيْ القسطلاني وشيخ الإسلام، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة ، مصر 1932,
بروكلمان (كارل): تاريخ الشعوب الإسلامية ، نقله إلى العربية نبيه أمين فارس، منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 1977.
البلاذري (أحمد بن يحيى): فتوح البلدان. عنى بمراجعته و التعليق عليه رضوان محمد رضوان، دار الكتب العلمية،، بيروت، لبنان  1991.
ابن الجوزي (أبو الفرج عبد الرحمن بن علي): أخبار أهل الرسوخ في الفقه و التحديث بمقدار المنسوخ من الحديث / لإبن الجوزي؛ قدم له محمد الغزالي؛ تحقيق أبي عبد الرحمن محمود الجزائري.، مكتبة ابن حجر، 1408هـ/1988. 
ابن خلدون(عبد الرحمن): المقدمة، كتاب الشعب، القاهرة، (د.ت).
السهيلي (عبد الرحمن بن عبد الله): الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام ومعه السيرة النبوية، دار المعرفة،  بيروت، لبنان، 1978.
الذهبي: تذكرة الحفاظ، حيدرآباد، الهند، ط1، 1333هـ.
الشهرستاني (أبو الفتح تاج الدين أحمد): الملل والنحل، بهامش الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، المطبعة الأدبية، القاهرة، ط1،1903.
د. الشابي (علي): مباحث في علم الكلام والفلسفة، دار بوسلامة للنشر، تونس، ط2، 1984.
د. غراب (سعد): العامل الديني والهوية التونسية، الدار التونسية للنشر، ط1، 1990.
القدسي (ابن أبي الشريف): المسامرة، تح. محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر، د.ت.·        
الطبري (أبو جعفر محمد بن جرير): تاريخ الرسل والملوك ط.ليدن 1879 ودار المعارف، القاهرة 1973.·   
المسعودي (أبو الحسن علي بن الحسين بن علي): مروج الذهب ومعادن الجوهر، تنقيح وتصحيح شارل بلاّ، طبع بابريه دي مينار وبافيه دي كرتاي، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، ط1 ، 1973.·        
موقع إلكتروني: http://sirah.al-islam.com/Disp

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More