الأحد، 10 يوليو 2011

إنشاء الخطاب وتفكيك النصّ : قراءة نقديّة في نصوص الإسلاميّين الحزبيّين ... عبدالغني عماد

تنطلق منظومة الأفكار المنتجة لمفهوم ((الحاكمية الإلهية)) من بنية معرفية تاريخية، مغايرة لواقع شديد الاختلاف. إنها تكفّر ((الدولة)) بشكل عام، والدولة المعاصرة بشكل خاص، لأنها تعتدي على سلطان الله وحاكميته، وتشاركه أحد صفاته، وهي التشريع، وتجعل نفسها نداً لسلطانه.
يكتفي المودودي بتكفير ((الدولة)) ويصف المجتمع بـ ((الجاهلية))، أما سيد قطب فيبني خطاباً يتخطى تكفير الدولة والمجتمع إلى تكفير الأمة، لأنها عندما تطيع الدولة وتخضع لها تكتسب صفة ((الشرك)) وتعود بذلك وثنية ـ جاهلية. يقوم سيد قطب بمزج مفهومي ((الحاكمية)) و ((الجاهلية)) ليؤديا دوراً جديداً يدفع نحو تأسيس مجتمع الدعوة من جديد. فالحاكمية تكفر الدولة، والجاهلية تكفر المجتمع والأمة وتنفي إسلامها لأنها تطيع الدولة وتخضع لها من جهة، ولأنها أصبحت تفتقد المعنى الحقيقي للشهادتين من جهة أخرى.

إذن يقوم سيد قطب بـ ((نعي)) المجتمع المسلم الذي يفقد وجوده، ويدعو إلى تأسيس قيامة جديدة له تتحقق على أيدي طليعة مختارة شبيهة بالصحابة الذين رافقوا النبي (ص). لا مفر إذن أمام المسلم من ((الخروج)) على الدولة و ((الهجرة)) من المجتمع و ((تكفير)) الأمة، للمحافظة على إسلامه، على أمل إعادة إنتاج الأمة وتأسيس المجتمع وإطلاق الدعوة من جديد.
يتحول مفهوم ((الحاكمية الإلهية)) على يدي سيد قطب إلى ((أيديولوجية)) تقوم بشحن مصطلحات قديمة بدلالات حديثة، معيدة ترتيبها وتصنيفها من جديد، وفق منظومة من المفاهيم، متراصة في تسلسل محكم، قادرة بحد ذاتها على إنتاج وتوليد مفاهيم جديدة مستقاة من مصطلحات قديمة. فالقضية تبدأ بتكفير الأمة والمجتمع، بمقتضاها تتحول ((دار الإسلام)) إلى ((دار حرب))، عندها يموت التاريخ، ليبدأ مشهد جديد يرفض اعتبار المجتمعات القائمة اليوم ((مسلمة))، لأن القبول بهذه التسمية يُستعمل كـ ((فخ)) يراد منه إحداث ممانعة لخطاب الإسلامي الانقلابي التكفيري. إذن نحن أمام مشهد جاهلي جديد، من الخطأ ـ وربما من التآمر ـ تلوينه أو تجميله أو تمويهه.
ـ قضاة أم دعاة؟
يختصر هذا الخطاب المسألة كلها بافتراض إذا ثُبتت صحته استقامت الفرضية، وهي أن الإسلام قد تم عزله وإقصاؤه عن الواقع وأن الأمة كلها تعيش في الكفر والحرام والضلال. وهذا الخطاب يقوم مستنداً على هذه الفرضية التي يحاول إثباتها بتقديم قراءة مبتسرة، مغرقة في التعميم والأحكام الإطلاقية فيما يختص بواقع المسلمين، وذلك بما يؤدي إلى إعادة إنتاج مفهوم ((المسلم)) من جديد وفق رؤية خاصة تخدم هذه الفرضية. تبدو المسألة بديهية عند الخطاب التكفيري لدرجة أنه لا ينشغل بطرح أي تساؤل عن لماذا وكيف ومتى تم إقصاء الإسلام عن واقع المجتمعات الإسلامية، مع أن هذه التساؤلات هي لبّ المشكلة وأساس الموضوع. وبدون طرح هذه التساؤلات تبقى الفرضية معلقة وما يُبنى عليها يستعصي على القبول، فما يبنى على الغموض يكون أكثر غموضاً.
يرتكز إذن الخطاب الإسلامي الحزبي على فرضية تقول إن ((المجتمع كافر)) والأمة تعيش في جاهلية جديدة أظلم من الأولى، وذلك لغياب حاكمية الله. هذه الفرضية التي طرحها سيد قطب مطوراً بذلك مقولات المودودي أثارت فور طرحها ردوداً متباينة وارتاع لها كثير من الحريصين على مستقبل العمل الإسلامي، وهي أثارت نقاشاً واسعاً بين العاملين في الحقل الإسلامي السياسي الذين عمدوا إلى تفكيك هذا الخطاب وتوجيه النقد العميق له. والملفت أن قيادات جماعة ((الإخوان المسلمين)) الذين رافقوا مؤسسها حسن البنا راعهم ما أحدثته هذه الأفكار من بلبلة في الصفوف، وبالتالي لم يستطيعوا تحمل وزر هذا الخطاب الدَعَوي التكفيري الجديد، فانبرى أغلبهم للتبرؤ منه والرد عليه أن محاول استيعابه والتخفيف من وطأته ومخاطره.
كان الاحتكاك الأول مع هذا الخطاب من قلب المؤسسة التي ينتمي إليها سيد قطب: ((جماعة الإخوان المسلمين))، هو الذي يعتبر أحد قيادييها الجدد. فقد انبرى أمين عام الجماعة حسن الهضيبي وهو خليفة المؤسس حسن البنا، إلى خوض حوارات مفتوحة مع سيد قطب والتيار الجديد الذي يمثله داخل السجون وخارجها. ثم أصدر كتابه الشهير (دعاة لا قضاة). وهو عبارة عن بحوث يردّ بها على المودودي صراحةً وعلى غيره ممن تبنوا أفكاره دون أن يسميهم. وهذا الكتاب بقي قيد التداول الداخلي في تلك الفترة إلى أن طبع عام 1977. وهو بطروحاته يدين الخطاب التكفيري ويؤسس لقطيعة مع منظومة الأفكار التي ترتكز عليها ((الحاكمية)) و ((الجاهلية الجديدة)). وأبرز ما جاء في هذا الكتاب:
أ ـ إن حكم الناطق بالشهادتين ((أن نعتبره مسلماً تجري عليه أحكام المسلمين، وليس لنا في مدى صدق شهادته إذ إن ذلك أمر لا سبيل للكشف عنه والتثبت فيه)).
ب ـ يعتبر الهضيبي ((أن حكم الله أن يُعتبر الشخص مسلماً في اللحظة ذاتها التي ينطق فيها بالشهادتين. ولا يشترط أن تكون أعمال الشخص مصدقة لشهادته حتى يحكم بإسلامه. وأنه في حال نطقه بالشهادتين يلزمنا اعتباره مسلماً ويحرم علينا دمه وماله .. )). ويضيف: ((من تعدى ذلك إلى القول بفساد عقيدة الناس بما يخرجهم من الإسلام قلنا له إنك أنت الذي خرجت عن حكم الله بحكمك هذا الذي حكمت به على عموم الناس)).
ج ـ وحول شيوع المعاصي كدليل على أن المجتمع الحالي جاهلي وكافر يقول الهضيبي: (( .. ليست المعالنة بالمعاصي وشيوعها، وليست الظواهر العامة التي ركن إليها دعاة التكفير مما يجيز لهم شرعاً أن يصدروا حكماً على عموم الناس بخروجهم من الإسلام إلى الكفر أو بعدم دخولهم في الإسلام أصلاً رغم النطق بالشهادتين)).
د ـ وحول مصطل الحاكمية يقول: (( .. إنه لم يرد بأية آية من الذكر الحكيم ولا في أي حديث، والغالبية التي تنطق بالمصطلح وهي لا تكاد تعرف من حقيقة مراد واضعيه إلا عبارات مبهمة سمعتها عفواً هنا وهناك أو ألقاها إليهم مَن لا يحسن الفهم ويجيد النقل والتعبير … وهكذا يجعل بعض الناس أساساً لمعتقدهم مصطلحاً لم يرد له نص من كتاب الله أو سنة رسوله .. أساساً من كلام بشر غير معصومين وارد عليهم الخطأ والوهم، وعلمهم بما قالوا في الأغلب الأعم مبتسر مغلوط)).
هـ ـ وفي رده على سيد قطب والمودودي حول مسألة اختصاص الله بالتشريع وأن مَن وضع تشريعاً فقد انتزع لنفسه أحد صفات الله وجعل نفسه نداً لله تعالى خارجاً على سلطانه يقول الهضيبي: ((إن الحكم لله وحده صاحب الأمر والنهي دون سواه، هذه عقيدتنا .. لكن الله عزوجل قد ترك لنا كثيراً من أمور دنيانا ننظمها حسبما تهدينا إليه عقولنا في إطار مقاصد عامة وغايات حددها لنا سبحانه وتعالى وأمرنا بتحقيقها بشرط ألاّ نحلّ حراماً أو نحرّم حلالاً ذلك أن الأفعال في الشريعة إما فرض أو حرام أو مباح .. ولا يجوز لأحد أن يزعم أن تشريعات تنظيم المرور هي من تشريع الله عزوجل … )).
و ـ ولمن ربط أو اشترط ((إسلام)) الشخص بضرورة استيعابه لمعنى الشهادتين قال الهضيبي: ((إن المسلمين في عهد الصحابة والتابعين فتحوا بلاد الفرس والبربر والترك والهند والأندلس وأجزاء من البلقان وكلها شعوب لم تكن تعرف العربية. وكان إجماع الصحابة والكافة على قبولهم الإسلام بشهادة ((أن لا إله إلا الله)) وعصمت بها دماؤهم وأموالهم دون أن يطالبوا بشيء مما أتى به المودودي وغيره .. )). استند الهضيبي هنا إلى الحديث النبوي: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله … )) وإلى عتاب النبي لأسامة بن زيد عندما قتل مشركاً نطق بالشهادتين ظناً منه أن أراد بذلك أن يفلت من القتل. حيث قال النبي قولته الشهيرة مستنكراً: هلا شققت على قلبه؟ .. ما تصنع بـ ((لا إله إلا الله))؟ اعتبر الهضيبي بعد استعراض أحاديث وآيات عديدة أن اشتراط استيعاب معنى الشهادة لاعتبار المسلم مسلماً شرط زائد وقال: ((إن من أحدث تلك التفرقة وأتى بذلك الشرط الزائد فقد خالف نص حديث رسول الله، واليقين الثابت من عمله والمعتبر شريعة بلا خلاف، وأتى بشريعة غير شريعة الله مستحدثاً في الدين ما لم يرد فيه نص من كتاب أو سنة)).
ز ـ ولمن يعتبر أن المرء يخرج من الإسلام إذا لم يكن عمله مصدقاً لشهادته ـ وهو قول المودودي وسيد قطب ومَن تبعهما ـ يقول الأستاذ الهضيبي: ((نقول للذي اشترط أن تكون أعمال الشخص مصدقة لشهادته حتى يحكم بإسلامه: إن فيما قدمناه يثبت فساد ذلك القول, فقد أقمنا الأدلة القاطعة على أن حكم الله تعالى يعتبر الشخص مسلماً في ذات اللحظة التي ينطق فيها بالشهادتين. وأنه في حال نطقه بالشهادتين يلزمنا اعتباره مسلماً ويحرم علينا دمه وماله. فمن أين جاء الشرط الذي يفرض وجوب عمل ما وتعليق حكم إسلام مَن نطق بالشهادتين، حتى يأتي بعمل يعتبر مصدقاً لشهادته؟)). واستشهد الهضيبي بما جرى وقت احتضار أبي طالب في فراش الموت، عندما جلس الرسول إلى جواره يلحّ عليه في أن ينطق بالشهادتين، ثم تساءل: ((ما جدوى هذه الشهادة وقيمتها، وما الداعي لأن يطلبها الرسول من عمه إن كانت بذاتها لا تُخرج قائلها من الكفر وتدخل به في الإسلام؟)).
ثم يوجّه الهضيبي سؤالاً إلى مَن قال بتعليق حكم إسلام المرء على عمل يؤديه فوق النطق بالشهادتين قال فيه: ((حدد لنا العمل الذي تريد أن تجعله مصدقاً لقول الناطقين بالشهادتين حتى نحكم بإسلامه. وحدد لنا صفة ذلك العمل ومقداره .. ولا سبيل إلى ذلك أبداً، إلا أن تأتي بشريعة من عند ذات نفسك ولم يأذن بها الله تعالى)).
ح ـ ويرفض الحكم على الناس بالمظاهر، وخاصة فيما يتعلق بواقع حياة الناس الذين ينهجون في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مناهج تخالف شريعة الله، فيقول: ((قد يكون الكثيرون منهم عاصين لأوامر الله، ولكن مَن تعدى ذلك إلى القول بفساد عقيدة الناس بما أخرجهم عن الإسلام قلنا له إنك أنت الذي خرجت على حكم الله بحكمك هذا الذي حكمت به على عموم الناس، وإن استدلالك على فساد عقيدة الناس بما يخرجهم عن الإسلام ظن لا يرقى إلى الجزم اليقين)). ويضيف: ((إننا لا نكفّر مسلماً بمعصية)).
كان هذا هو الرد الرسمي للمؤسسة التي خرج منها سيد قطب وتتلمذ على أيدي بعض علمائها. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تتابع سيل الردود من داخل التيار الفكري التنظيمي الذي ينتمي إليه سيد قطب، ومن أبرز هؤلاء الدكتور يوسف القرضاوي، وهو من قادة الإخوان المسلمين الذين غادروا مصر عام 1954 وعاش منذ ذلك الحين في أقطار الخليج وأصبح عميداً لكلية الشريعة في قطر، وعاد إلى مصر في مرحلة الانفتاح ((الساداتي)) ليلعب دوراً هاماً في إعادة تأسيس الانطلاقة.
يعرض الدكتور القرضاوي مفاهيم الجاهلية والحاكمية على صفحات جريدة الشعب المصرية، ويناقش ويرد على ما جاء فيها، معتبراً أن المجتمع الذي نعيش فيه الآن ليس شبيهاً بمجتمع مكة الذي واجهه النبي (ص) حين نشأت الدعوة الإسلامية الأولى. فالأول كان وثنياً كافراً لا يؤمن بوحدانية اله ويقول عن القرآن إنه سحر وافتراء وأساطير الأولين، أما مجتمعنا اليوم فهو خليط من الإسلام والجاهلية فيه عناصر إسلامية أصيلة وعناصر جاهلية دخيلة. ويضيف: إن هناك بعض المنافقين يتظاهرون بالإسلام، فلهم حكم المنافقين، أما أكثرية الأمة الساحقة فهي ملتزمة بالإسلام. وجلّ أفرادها متدينون تديناً فردياً يؤدون الشعائر المفروضة .. يخافون الله تعالى ويحبون التوبة .. إلى غير ذلك مما يدل على صحة أصول العقيدة لديهم. يلخص إلى اعتبار أنه من الإسراف والمجازفة الحكم على هؤلاء جميعاً بأنهم جاهليون كأهل مكة الذين واجههم النبي (ص) في فجر الدعوة. فالواقع غير ذلك تماماً، فكثير منهم يصلون ويصومون ويزكون ويحجّون، وكثير ممن قصّر في هذه الفرائض لا ينكرها ولا يستخف بها. فهل كان مجتمع مكة يلتزم شيئاً من هذه الأركان؟
مقولات سيد قطب استدعت رداً من المؤسسة الإسلامية الرسمية، وقد جاءت أولى الردود من رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشيخ محمد عبداللطيف السبكي في الكتاب الذي رفعه إلى شيخ الأزهر الشيخ حسن مأمون، وهو رد طويل نختصر منه بعض الأفكار التي يعتبر فيها الشيخ السبكي كتاب (معالم في الطريق) مسرفاً في التشاؤم، فهو ينكر وجود أمة إسلامية منذ قرون طويلة وهذا يعني أن عهود الإسلام الزاهرة وأعلامه وأئمته الكبار كانوا في جاهلية حتى يجيء إلى الدنيا سيد قطب ليهديهم! ويتساءل: ما معنى الحاكمية لله وحده؟ هل يسير الدين على قدمين بين الناس ليمتنع الناس جميعاً عن ولاية الأحكام؟ أو يكون ممثل الله في الحكم هو شخصية هذا المؤلف الداعي الذي ينكر وجود الحكام ويضع المعالم فيا لطريق للخروج على كل حكام الدنيا؟ ويضيف معتبراً أن الإسلام نفسه يعترف بالحكام المسلمين ويفرض لهم حق الطاعة علينا كما يفرض عليهم العدل فينا، والإسلام لا يعتبر الحكام معصومين عن الخطأ بل افترض لهم أخطاء تبدر من بعضهم وناشدهم أن يصححوا أخطاءهم بالرجوع إلى الله وسنة الرسول بالتشاور في الأمر مع أهل الرأي من المسلمين. ويعتبر أنه من المقررات الإسلامية أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. لذلك لا يجوز أن تقوم طليعة مزعومة لتجريد الحكام جميعاً من سلطانهم؟ فهذا شطط من الخيال يجمح بمؤلف الكتاب إلى الشذوذ عن الأوضاع الصحيحة. ويذهب الشيخ السبكي إلى حد اعتبار مؤلف الكتاب قد شطح بعيداً فزعم لنفسه الهيمنة العليا الإلهية في تنظيم الحياة الدنيا، حيث يقترح أولاً هدم النظم القائمة دون استثناء وطرد الحكام ثم التشريع من جديد لهذا المجتمع الجديد. ويخلص إلى اعتبار الكتاب يخلط بين الحق والباطل ليموِّه على الناس .. وهذه هي حيلة إبليس فيما صنعه مع آدم وحواء وفيما يدأب عليه دائماً في فتنة الناس عن دينهم وعن الخير في دنياهم.
لقد كانت مقولات سيد قطب بداية لتحولات لا حد لها في صفوف الإخوان المسلمين. فكما تحمّس بعض شباب الإخوان لأفكاره بشدة، تحمس البعض الآخر ضدها، واعتبر أغلب الذين عارضوه أن هذه الأفكار مخالفة للخط الحركي الذي سارت عليه الجماعة من قبل، بل اعتبرها أيضاً صادرة عن جهة غير شرعية بالنسبة لهم. أقام المعارضون لأفكار سيد قطب وتنظيمه ضجة كبرى داخل صفوف الإخوان ووصفوا ما يفعله ((بأنه فتنة ستعصف بالبقية الباقية من الجماعة، وكان أبرز المعارضين: أمين صدقي وعبدالرحمن البنان وعبدالعزيز جلال)). وقد انقسم الإخوان من جديد إلى فريقين، الأول يطالب بضبط النفس والعمل ضمن الوسائل التي يمكن أن يسمح بها النظام، والثاني يطالب بالمواجهة ولا يرى إلا الانقضاض والانقلاب، فريق يسيطر عليه ما تبقى من جيل الحرس القديم، والآخر يسيطر عليه الشباب. كان كل هذا يجري داخل السجن وانطلاقاً من مستشفى سجن ((ليمان طرة)) حيث يقيم سيد قطب بشكل شبه دائم، ويتواصل مع شباب الإخوان، ويكتب ويرسل النشرات المختلفة إلى أعضاء تنظيمه الجديد في الداخل والخارج. بل إن عدداً من المناظرات قد قامت بين التيارين. كان قطب يجري نوعاً من التقييم الشامل لحركة الإخوان المسلمين منذ أيام حسن البنا إلى أيام حسن الهضيبي، ((وكانت نوعاً من محاسبة الذات أيضاً، فهو في مرحلته السابقة رفض اتفاقية الجلاء، وسعى إلى التخلص من حكومة الثورة، وتحالف مع الشيوعيين في أزمة آذار/ مارس 1954 … فكل هذه الأخطاء أدت إلى استغراق حركة الإخوان في مناورات آنية ومحدودة، بينما كان المجتمع يبتعد شيئاً فشيئاً عن فهم مدلول العقيدة الإسلامية. لذلك كان عليه أن يصحح عقيدة الناس مبتدئاً بالطليعة التي أخضعها لبرنامج فكري قدّره البعض بستة شهور والبعض الآخر بستة ونصف. وكانت هذه بداية التحولات في التفكير وفي التنظيم وفي الحركة، وقد امتدت هذه التحولات من مصر إلى العالم العربي.
بعد إعدام سيد قطب أخذت مقولاته أبعاداً جذرية، إذ وجد فيها جيل من الشباب نقطة انطلاق لأيديولوجيا التكفير الشامل، وقد راح هؤلاء يكفّرون كل مَن حولهم، فكل المجتمعات جاهلية كافرة ((ومَن لم يكفّر الكافر فهو كافر))، و ((لا انتخابات ولا برلمان ولا ديموقراطية لأنها ليست في القرآن)). ومن هؤلاء مَن اعتبر ((المساجد القائمة معابد للجاهلية لأن الذين يصلّون فيها ارتدوا عن الإسلام .. والصلاة معهم شهادة لهم بالإيمان مع أنهم كفرة .. )). وتحت شعار تحطيم المجتمع الجاهلي راحت هذه الحركات تتحول إلى العنف المغلّف بشعار ((الجهاد)). بل إن بعضهم يرفض أن يصلي الجمعة حتى في المسجد الحرام.
اختلطت مقولات قطب بطروحات إضافية استقاها تلاميذه من المنبت نفسه، معتمدين الطريقة المنهجية ذاتها في التأويل والتعليل. وكما استدعت هذه المقولات ردوداً من داخل المؤسسة والتيار الذي ينتمي إليه هو نفسه، كذلك تصدت لها العديد من الأقلام الحرة والمستقلة والتي تنطلق من مواقع إسلامية معتدلة أو إصلاحية. فالدكتور أحمد كمال أبوالمجد يعتبر: ((أن فكرة الحاكمية وما رتَّبوه عليها من نزع سلطة التشريع عن الجماعة .. ومغالاتهم في ذلك مغالاة سقيمة، تنبع من جهل لا حدود له بمصالح العباد ومقاصد الشريعة. والفكرة التي قال بها العلامة المودودي وتابعه فيها قطب وجرت بها آلاف الألسنة من الشباب والأقلام هي كلمة حق أفضت إلى ضرر عظيم وحرّفت عن موضعها وسخّرت لغير ما قيلت له)).
أما الكاتب الإسلامي فهمي هويدي فيرد على هذه المقولات قائلاً: ((إن الحكم لله هذا صحيح، ولكنه بالناس وللناس في حقيقة الأمر. إن حق الله مكفول ولا جدال فيه، لكن المشكلة الحقيقية والمهدد بالجور والظلم هو حقوق الناس، وهو ضمان مشاركة الجماهير بالسلطة وتثبيت دورها في تقرير مصائرها. إن تعبير حاكمية الله لا يضيف جديداً، كما أنه لا يتصدى لجوهر مشكلة الحكم. ليس هذا فقط، بل إن باب الضرر من جرَّائه مفتوح على مصراعيه. غذ ما أسهل أن يتدثر به حاكم ليعلن علينا أنه يباشر سلطانه باسم الله، وما أسهل أن يلغي دور الجماهير بدعوى أن الحكم هو لله والحاكم هو الله)).
وفي محاولة للتخفيف من النقد واستيعاب ردود الفعل التي وجِّهت إلى هذا الخطاب التكفيري، ولتبرئة سيد قطب من المنحى الخطير الذي اتخذته طروحاته، انبرى البعض لتبرير مقولة الجاهلية التي خرج من تحت عباءتها سلاح التكفير والاستحلال. ومن هؤلاء محمد قطب صاحب الكتابات الغزيرة وشقيق سيد قطب، الذي أخذ على عاتقه التخفيف من خطورة مقولات شقيقه، فقال إن المقصود بها: ((تعريف المسلمين بما غفلوا عنه من هذه الحقيقة ليتبينوا هم لأنفسهم إن كانوا مستقيمين على طريق الله كما ينبغي أم أنهم بعيدون عن هذا الطريق .. ولقد سمعته بنفسي أكثر من مرة يقول نحن دعاة ولسنا قضاة، إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس .. )). وفي هذا السياق أجهد المستشار سالم البهنساوي نفسه لرد شبهة التكفير عن سيد قطب والمودودي، محاولاً تأويل كلامهما بأنهما أرادا بالجاهلية المعاصرة، جاهلية المعصية وليس جاهلية الكفر والاعتقاد ((حتى ولو لم يفصحا عن ذلك وجب أن نلتزم معهما حسن القصد)).
ومن الواضح أن هذه النصوص وغيرها التي حاولت تبرئة سيد قطب والمودودي لم تجد في كتاباتهما نصوصاً تساعد على إثبات البراءة، فكانت الشهادات الشخصية والتأويل والدعوة إلى الالتزام ((بحسن القصد)) هي الوسيلة الوحيدة المتاحة. لا شك أن الدفاع عن المودودي وسيد قطب وتبرئتهما من تهمة ((تكفير المجتمع)) مهمة شاقة وصعبة، فنصوص الرجلين واضحة وصريحة، وليس هناك أكثر وضوحاً وأشد جرأة في تكفير الأمة من نصوص سيد قطب، فعنده الأمة كفرت بالعقيدة وليس بالمعاصي فقط، فهو يقول: (( .. نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية .. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم .. )). وبلهجة حاسمة يكلف أتباعه بإعادة إنشاء هذا الدين فيقول: ((ينبغي أن يكون مفهوماً لأصحاب الدعوة الإسلامية أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون .. )). وفي مكان آخر يؤكد: ((إن الناس ليسوا مسلمين كما يدعون وهم يحيون حياة الجاهلية .. ليس هذا إسلاماً وليس هؤلاء مسلمين والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهليين إلى الإسلام ولتجعل منهم مسلمين من جديد)).
أمام هذه النصوص الصريحة تتضاءل إمكانيات الدفاع ولا يجدي نفعاً الاستشهاد بكتابات سابقة لسيد قطب صدرت قبل كتابه (معالم في الطريق) الذي هو آخر إنتاجه، وفيه انتقد كل المفاهيم والأساليب السابقة متجاوزاً ذاته مطوِّراً أفكاره نحو مزيد من الحدّة والتصلب، مقدماً بذلك تعريفاً جديداً لـ ((المسلم)). وهو لم يكتف بتقديم الأفكار بل عمل على تنفيذها بالقوة وباستخدام العنف ضد الدولة والمجتمع والأمة التي اعتقد بكفرها. أما الاحتجاج بالمعاناة والظروف النفسية التي رافقت كتاباته فهو دفاع ضعيف وينطوي على اعتراف ضمني بأن هذه الأفكار خاطئة نظراً للظروف الشخصية التي أحاطت بها، وهي إذ تُعتبر أسباباً تخفيفية، إلا أنها لا تنفي ((الجرم)) بل تدعو لتخفيف ((الحكم)) فحسب.
يمكن القول بشكل عام إن الإسلاميين الحزبيين يلجأون إلى النصوص والآيات التي تتصل بمسائل الإيمان والكفر، وهي في غالبيتها وردت في سياق الصراع بين المسلمين في المدينة وقريش المعادية في مكة، فيستخدمونها دون التوقف عند أسباب النزول. كما أنهم لا يستخدمونها كما وردت في إطار صراع المسلمين مع الخارج المعادي، بل يوظفونها في سياق آخر مختلف تماماً، ويحمّلونها دلالات لا تتفق مع بيئتها. وذلك من خلال تطبيقها على الداخل الإسلامي بعد إعلان جاهليته وتكفيره. وفي حال اضطرارهم للتعيين والإيضاح وإيجاد البراهين وإقامة الحجج، لا يجدون إلا في فتاوى ابن تيمية وتلامذته مثل ابن كثير ما يسعفهم وذلك بعد أن يلجأوا إلى تأويل تلك الفتاوى وقولبتها وإخراجها من الزمان والمكان بما يتناسب مع الواقع الراهن.
ويلاحظ أن الغالب في نصوص الإسلاميين الحزبيين هو التركيز على العموميات الدينية، أما النادر فهو الطرح السياسي والاجتماعي. ومع أن غايتهم هي الوصول إلى السلطة فإن سلوكهم ليس سلوكاً سياسياً، بل إنه سلوك يتوسل الدين للوصول إلى غايات سياسية. إنه سلوك يغلب عليه الطابع ((الوعظي)) الذي يظهر بأنه لا يستهدف إنقاذ المجتمع والأمة فقط، بل الدين أيضاً. وهم يعتبرون أنفسهم حماة هذا الدين وعليهم تقع مسؤولية ((إنشائه)) من جديد. ومع أنهم يقولون إن للدين رباً يحميه فإنهم يتصرفون وكأنهم منقذون جاؤوا لهداية البشرية بعد ضلالها من جديد، ويطالبون في المقابل بالطاعة والسلطة والحكم.
يبدو هذا السلوك هروباً من مواجهة الواقع والتصدي لمشاكله، وهو يؤدي إلى الامتناع عن تقديم برامج يلتزمون بها تتضمن أهدافاً قريبة أو حلولاً مناسبة يسعون لتحقيقها. وهذا أمر لم يخفه سيد قطب حين طالب الإسلاميين الحزبيين برفض ذلك، بل واعتبره مضيعة للوقت ومبرراً للانقسام والفتنة: (( … إن الطليعة ليست مطالبة بتفصيل البرامج والتصورات للدولة الإسلامية التي تسعى لإقامتها. فلم يكن ذلك وارداً في العهد المكي من تاريخ الإسلام الأول .. ففي مكة وعلى امتداد ثلاثة عشر عاماً، كانت المهمة العظمى الأولى والوحيدة، هي تأسيس العقيدة، وتجسيدها بالحركة في الجماعة المؤمنة .. لم تدبج هذه البرامج سلفاً قبل ظهور المشكلات ولا قبل قيام السلطة التي يطلب منها حكم الواقع ومواجهة مشكلاته بالحلول الإسلامية .. فيجب على الجماعة الإسلامية أن لا تقع ((بالفخ)) فتمكن الجاهلية من أن تضغط على أعصاب بعض المخلصين من أصحاب الدعوة الإسلامية، فتجعلهم يتعجلون خطوات المنهج الإسلامي .. أو تحرجهم فتسألهم: أين تفصيلات نظامكم الذي تدعون إليه؟ وماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث ومن دراسات ومن فقه مقنن على الأصول الحديثة؟ .. وطالما لم تقم الطليعة بعد المجتمع الذي تحكمه ((الحاكمية الإلهية)) فلا ضرورة لتفصيل البرامج والتصورات لواقع لسنا مسؤولين عنه .. )). واضح من هذا النص أن سيد قطب يعتبر المسلمين اليوم مثل أهل مكة قبل الإسلام، وبالتالي لا يجب أن يعرض عليهم سوى العقيدة. إذن المسلمون اليوم حسب رأي سيد قطب والإسلام الحزبي لا يجب أن يسألوا عن مضمون وتفاصيل الحكم الإسلامي الذي يدعون إليه. الإسلام الحزبي يطالب الناس بالانقياد والطاعة والخضوع بدون مساءلة أصحاب نظرية الحاكمية الإلهية. يتضح من النص أيضاً أن السلط هي الهدف لكن المدخل إليها ليس كسب ثقة الناس من خلال عرض الأهداف والمضامين والبرامج، بل المدخل إلى السلطة هو التعمية بأهداف عامة لا خلاف حولها، على طريقة المطالبة بإقامة حكم الله. أما ماهية هذا الحكم وكيفيته فهذا ما لا نجد له جواباً. علماً بأنه ليس هناك جواب واحد، بل أجوبة متعددة، وهذا هو أساس المشكلة وأصلها الذي يتهربون من مواجهته. قد ظن سيد قطب أن التهرب من وضع برنامج يحدد أهداف الإسلام الحزبي في كيفية بناء الدولة يحمي هذه الطليعة من الانقسام والتشرذم، وهذا ما لم يتحقق عملياً.
تقوم نصوص الإسلاميين الحزبيين على قاعدة مرجعية حاسمة وهي اعتبار مسألة السلطة السياسية ـ الحاكمية ـ بمثابة المسألة الأساس في الإسلام كله. فالأمة تعيش في الجاهلية والكفر منذ إلغاء الخلافة العثمانية، أو عند أغلبهم منذ تحول الخلافة إلى ملك عضوض حيث أصبح الحكم لصاحب الشوكة والسلطان. إن هذا الطرح يلخص ويختزل قضية الإسلام كلها في الحاكمية أو السلطة السياسية. وهذا أمر يتناقض مع رحابة الإسلام كدين عالمي وكنظام حياة متكامل، يبدأ بقيام الفرد بالشعائر والعبادات والتزامه بنظام الأخلاق إلى أن يسود العدل بين الناس الذي هو من مقاصد الإسلام الأساسية.
إن تغليب المسالة السياسية على ما عداها في الإسلام، هو المرتكز النظري الأساسي للإسلام الحزبي. فمقولة الحاكمية الإلهية استهدفت بشكل أساسي القضاء على تحكم البشر ببعضهم البعض واستعبادهم لبعضهم البعض وذلك من خلال عبودية الجميع لله. إلا أن هذه المقولة أدت عملياً إلى أن يزعم بعض الناس لأنفسهم حق احتكار الفهم والشرح والتفسير والتأويل، وأنهم وحدهم الناقلون عن الله. وخطورة هذا الأمر تكمن في أن حاكمية البشر يمكن مقاومتها وتغييرها بأساليب النضال الإنسانية المختلفة والعمل على استبدالها بأنظمة أكثر عدالة. في حين أن النضال ضد مَن يحكمون ويمارسون السلطة باسم ((الحاكمية الإلهية)) يوصم منذ البداية بالكفر والزندقة بوصفه نضالاً ضد حكم الله وجحوداً به. لا شك أن هذا النوع من الحكم يصادر إرادة الناس ويفقدهم القدرة على تغيير واقعهم ومواجهة حكامهم الظالمين الذين يدعون القداسة والعصمة. إن هذه الخلاصة تؤسس لقيام نظام تيوقراطي فردي، يستند إلى سلطة دينية تلتمس القداسة من الدين والعصمة من الأنبياء، مما يؤدي إلى إضفاء صفة القداسة على سلطة البشر ويجعلهم خارج دائرة الحساب وفوق الرقابة.
ـ في خصوصية النص وعمومية الدلالات:
ينطلق النص الإسلامي السياسي الحزبي من أحكام قيمية ومعيارية بالغة الاتساع، وهو يستفيد من تراث ضخم غالباً ما يتم التعامل معه بعقلية انتقائية تشدد على حرفية النصوص حيناً، وتعمد إلى التأويل الواسع حيناً آخر. وهو يرتكز على مقولة مرجعية مفادها: إن التشريع لا يكون لغير الله. وإن التشريع من جانب البشر مشاركة لصفة من صفات الله. وبمعنى آخر مشاركة الله تعالى في حاكميته. وهذا شرك كامل وكفر يفضي بالإنسان إلى الجاهلية. يترتب على هذه الرؤية حصر التفكير ضمن دائرة النصوص وبالتالي الاقتصار على إعادة تفسيرها وإنتاجها مفسرة ومكررة، مما يؤدي إلى محاصرة العقل وتطويقه، وبالتالي تعطيله خارج إطار هذه الدائرة. ويجري اعتماداً على هذه المقولة تضييق مساحة الاجتهاد، بل تجميدها تحت شعار أن ملا نصّ فيه في القرآن والسنة، له شرح وتعليل في مؤلفات السلف من الفقهاء.
لقد قامت الأمة على مدى التاريخ بالتشريع لنفسها من خلال الفقهاء والقضاة وذلك على أساس من عموميات ما ورد في القرآن. ومن ثم فإن الفقه الإسلامي، الذي يسميه البعض خطأً بالشريعة الإسلامية، هو تشريع الناس للناس في ضوء الأحكام العامة التي جاء بها الدين. الفقه إذن بخلاصته معطى بشري، غير إلهي، وقد حدثت هذه الإضافات على مدى التاريخ ولم يعترض أحد أو يحتجّ. وليس صحيحاً القول بأن وقف العمل ببعض الأحكام أو الادعاء بظرفيتها ونسبيتها كفر مبين. فمبدأ ((النسخ)) في القرآن معروف، وهو أن يلغي حكم لاحق حكماً سابقاً، وهو مبدأ تكرر مراراً في أحكام المعاملات. وهو بحد ذاته دليل على ظرفية ووقتية بعض الأحكام التي رأى الخالق سبحانه أنها استنفدت غايتها.
وليس الأمر مقصوراً على الآيات المنسوخة فقط. فقد أوقف عمر بن الخطاب إعطاء سهم الصدقات للمؤلفة قلوبهم، مع أن الآية القرآنية التي تخصهم بالصدقات (التوبة 9/ 60) لم تُنسخ، وسار النبي (ص) على حكمها حتى توفي وكذلك أبو بكر من بعده. ومع ذلك فلم يدّع أحد أن عمر قد كفر. كذلك أوقف عمر حدّ السرقة في عام المجاعة، وقفاً شاملاً بدون النظر إلى كل حالة على حدة. كذلك فإن أحكام الرق في الإسلام كانت بلا شك أحكاماً وقتية تطبق عند قيام نظام الرق ولا تسري بعد إلغائه. ويقدّم التاريخ الإسلامي وقائع عديدة دون أن يدّعي أحد طوال أربعة عشر قرناً أن ثمة كفراً في ذلك.
والمشكلة أن النص الإسلامي السياسي الحزبي يتعامل مع الدين بـ ((عقلية نصوصية))، وهو لا يرى أن الشريعة مقاصد قبل أن تكون نصوصاً، كما يرى كثير من علماء المسلمين والفقهاء الذين يعتبرون أن النصوص والتكاليف كلها ترجع إلى تحقيق مقاصدها. فالنصوص ليست بديلاً عن مقاصد الشريعة. وهناك فرق بين استيعاب النصوص واحترامها، وبين التمسك بحرفيتها وعبادتها كقوالب وصيغ ورموز، فهذا يفضي إلى نوع من الوثنية الجديدة. إن الإسلام حضّ على الاجتهاد، وجعل للمجتهد المخطئ ثواباً حتى على خطئه. وقد كان من نتائج هذا الاجتهاد فقه غني شمل مختلف أوجه الحياة، هو بخلاصته تشريع بشري اعتمد أصولاً مقننة في الاجتهاد، استناداً على القرآن والسنة والقياس والاستحسان والاستصلاح والاستصحاب .. إلخ. وقد بلغت اجتهادات الفقهاء والأئمة حدّ الاختلاف حتى قيل إن في اختلاف الأئمة رحمة للأمة.
وقاعدة ((لا اجتهاد في مورد النص)) متفق عليها، وتدفع إلى الاجتهاد في دائرة ((الفراغ)) حيث سكت النص وغاب التشريع. لكن هذه القاعدة لا تلغي دور العقل والاجتهاد في فهم النص نفسه، وبالتالي في فهم مراد الشارع ومقصده، مع ما يترتب على ذلك من تحديد لمدلولات الألفاظ، والترجيح بين النصوص المتعددة التي يوحي ظاهرها بالتعارض. إذن لا يحول دون الاجتهاد وجود نصّ نقلي يحتاج إلى إعمال العقل والتفكر فيه لاكتشاف مدلولاته وأبعاده.
فقد اختلف المتكلمون في تحديد المحكم والمتشابه من آيات القرآن الكريم. وينتهي كبار العلماء والمفسرين إلى أن ما تضمنه القرآن ينقسم إلى أربع درجات هي بالترتيب:
1 ـ الواضح الذي لا يحمل إلا معنى واحداً.
2 ـ الذي يحتمل معنيين لكن أحدهما هو الراجح أو ((الأقوى)). وللآخر معنى مرجوح ((محتمل))، وهذا هو الظاهر.
3 ـ الذي يحتمل معنيين كلاهما يساوي الآخر في درجة الاحتمال وهو المجمل.
4 ـ الذي يحتمل معنيين غير متساويين في درجة الاحتمال. لكن المعنى الراجح أو ((الأقوى)) ليس هو المعنى القريب ((الظاهر)) كما في الثاني. بل الراجح هو المعنى البعيد، وهذا النوع هو المؤول.
يميل النص الإسلامي الحزبي إلى تجاوز ما سبق من ((أصول)) حددها علماء التفسير، فيعمد إلى اقتطاع الآية أو النص عن أسباب التنزيل، بحيث يجري سلخ بعض الآيات القرآنية عن السياق الذي نزلت فيه، وذلك اعتماداً على تبرير فقهي يقول: ((العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)). وهذه القاعدة فقهية، أي أنها بشرية، من إنشاء الفقهاء، وليست قاعدة شرعية وردت في القرآن أو جاءت في السنة. وهي قاعدة تحتفل باللفظ أكثر من احتفائها بالمعنى، وهذه هي طريقة الوعاظ الذين يميلون إلى الاستسهال في التعامل مع النصوص القرآنية. فبين ((عموم اللفظ)) و ((خصوص السبب)) هناك نقاش كبير بين الفقهاء والمتكلمين. وما يورده الزركشي على أنه من العام، يرى السيوطي أنه نماذج من الأحكام الفرعية التي يندر فيها العموم.
والمتفق عليه أن النص القرآني تنزل متفرقاً على مدى ثلاثة وعشرين عاماً. حيث كانت كل آية أو مجموعة آيات تتعلق بواقعة بذاتها أو برد على سؤال أو بتحد واجه المسلمين. والمنهج الصحيح لتفسير النصوص القرآنية هو بإعادة ربطها بأسباب التنزيل وفهمها على ضوء خلفية الواقعة التي تنزلت بشأنها. ويقول عبدالله بن عباس أحد كبار العلماء المفسرين: ((إنه سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن ولا يدرون فيما نزل. فيكون لهم فيه رأي. ثم يختلفون في الآراء. ثم يقتتلون فيما اختلفوا فيه)). وهو قول يعبر عن خوف منهجي واضح عند صاحبه. كذلك ذهب ابن تيمية، الذي يستشهد به الإسلاميون الحزبيون كثيراً، فيقول إن معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية. فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب. وقد أشكل على جماعة من السلف معاني آيات حتى وقفوا على أسباب نزولها فزال عنهم الإشكال.
يتجاوز النص الإسلامي الحزبي هذه القواعد ((الأصولية)) أيضاً، فيعمد إلى اجتزاء بعض النصوص ويعزلها عن الظروف التاريخية والبيئية التي أنزلت فيها، ثم يستعملها استعمالاً مطلقاً على أساس التركيب اللفظي والمدلول اللغوي وحده دون أي اعتبار آخر. مع أنه من المسلم به أن القرآن كل متكامل يفسر بعضه بعضاً. واعتماد منهج ((عموم اللفظ)) واستبعاد ((خصوص السبب)) أي أسباب التنزيل يؤدي من الناحية العملية إلى إفقار النص القرآني وتقطيع أوصاله وإلى التباعد بين آياته، بل إنه يؤدي عملياً إلى إظهار بعض النصوص وكأنها في حالة تناقض مع نصوص أخرى.
فالنص الإسلامي الحزبي يستخدم بعض الآيات معزولة عن بيئتها. فالآية الشهيرة في سورة المائدة: (ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون … )، تُستعمل كشعار سياسي وكهتاف حزبي، وهي تُرفع في وجه المسلمين لدفعهم إلى تكفير كل من حولهم. ودراسة أسباب النزول، والسياق الذي نزلت فيه هذه الآية تبين أمرين:
ـ إن هذه الآية لم تنزل في المسلمين أصلاً، بل نزلت في أهل الكتاب. وإلى ذلك ذهب معظم مفسري القرآن الكريم.
ـ إن هذه الآية لا تعني ما يذهب إليه الإسلاميون الحزبيون، فلفظة ((يحكم)) تحمل البعد السياسي في عصرنا الحاضر، لكنها في المدلول القرآني تعني الفصل في الخصومات والقضاء. والنص القرآني استخدم لفظة ((الأمر)) وليس لفظة ((الحكم)) للدلالة على إدارة الشأن السياسي للأمة. ومن الآيات الدالة على ذلك: (وأمرهم شورى بينهم)، (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر)، (يقولون هل لنا من الأمر من شيء).
وينطبق هذا التفسير على آيتين شهيرتين أيضاً يستخدمهما النص الإسلامي الحزبي سياسياً، وهما: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) النساء/ 65، (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) النساء/ 105. فهاتان الآيتان خطاب إلى النبي (ص) وحده دون غيره. فالأولى تنفي الإيمان عمن لا يحكم النبي في أي شجار بينه وبين آخر ثم يرتضي حكمه. لكنها لا تنفي صفة الإيمان عمن لا يلجأ إلى بشر آخرين، ولو كانوا يدعون إقامتهم حكم الله، إلا بعد أن يتيقن بنفسه من مطابقة هذا الحكم لأصول الشريعة. فليس لأحد أن يدّعي ولاية خصّ بها الله، النبي (ص) وحده كما هو واضح من معنى الآية وسبب نزولها. والآية الثانية هي أكثر وضوحاً في هذا المجال. إن كلتا الآيتين تختص بفضّ النزاعات والخصومات، أي بالقضاء. وقد ورد في الحديث الشرف ما نصه: ((قد يتخاصم إليّ إثنان منكم ويكون أحدهما ألحن من أخيه. فإن قضيت له بغير حقه، فقد أخذ قطعة من النار)). مما يعني أن أحد المتخاصمين قد يكون متحدثاً وأكثر حجة ومقدرة على التصرف من الآخر صاحب الحق. ويؤدي هذا إلى أن يحكم للأول بغير حق. وهذا الحديث يؤكد على أن الحكم الذي يصدر عن القاضي هو حكم بشري وليس حكم الله. لذلك خاف النبي (ص) أن يتأثر بـ ((لحن)) القول وبيان الحجة والكلام، وحذّر من مغبة ذلك. فأحكام الله واضحة بلا شك، لكن تبيانها وإقامتها من قبل بشر أمر قابل للخطأ والصواب. وليس لأحد أن يدعي لحكم قال به أنه حكم الله.
في ضوء هذا الاستطراد الذي يبين مدى خطورة المنهجية التي تعتمد قاعدة ((العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)). فاللفظ قد يتغير استخدامه، وتتبدل دلالات المعنى الذي يحمله. كما في لفظة ((الحكم)) و ((الأمر)). واعتماد عموم اللفظ بدون معرفة أسباب التنزيل أو خصوص السبب، أمر يؤدي إلى فهم مجتزأ ومزيف. ويؤدي أيضاً إلى تقطيع أوصال النص القرآني، هذا إذا لم ينتج عنه خداع وتضليل في استخدام الألفاظ والدلالات.
 ***************
يمكنكم زيارة

مدونة الدكتور عبد الغني عماد

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More