كان عقد الثمانينات من القرن المنصرم قد شهد فورة في الدراسات الحديثة التي طالت التراث والمعاصرة، التراث والحداثة، وعقدت في هذا السياق ندوات كبيرة، وصدرت دوريات وكتب تعالج وعبر أكثر من منظور مختلف إشكاليات التراث والمعاصرة، والتي بدت رازحة تحت وطأة ما يسميها ميشيل فوكوبـ "إرادة الإيديولوجيا" التي نحّت جانباً إرادة المعرفة لصالح المواقف المجتزأة والمؤدلجة في قراءة التراث.
في سياق هذا الاهتمام بالتراث شهد عقد التسعينات تطوراً جديداً في سياق دراسة النص الإسلامي، وأقصد النص القرآني الكريم، وذلك عبر مقاربة منهجية بين الاجتهادات الحديثة الوافدة من حقل اللسانيات الحديثة وبين الدراسات القرآنية، ومقاربات أخرى ما انفكت عن الزعم بحداثويتها في قراءتها للنص القرآني، وكذلك النص الحديثي بحسب تعبير تيزيني والمقصود الحديث النبوي الكريم، والتي سعت إلى مناوشة جديدة للنص، تنطلق من الهامش إلى المتن، ومن اللامفكر فيه إلى حيز المفكر فيه.
في هذه الدراسة، سوف أقف عند قراءتين: الأولى عند مفهوم النص عند نصر حامد أبو زيد، والثانية عند طيب تيزيني في قراءته لما يسميه بـ "النص القرآني" والتي تهتدي بالمنهج المادي الجدلي التاريخي.
النص، السلطة، الحقيقة:
تتمحور اجتهادات نصر حامد أبوزيد حول نقطتين مركزيتين، الأولى: ربط الدراسات القرآنية بالدراسات الحديثة المعاصرة، والثانية: وتتمثل في سعيه إلى إذكاء وعي علمي بالتراث، يشدد عليه أبوزيد مراراً، خاصة وأن العنوان الفرعي في كتابه الموسوم بـ "الخطاب الديني" هو"نحو إنتاج وعي علمي بدلالة النصوص الدينية"(1) وهذا ما يؤكده أبوزيد في تقديمه لكتابه" مفهوم النص" الذي أحدث ضجة في حينه، بقوله: إن البحث عن مفهوم النص ليس مجرد رحلة فكرية في التراث، ولكنه فوق ذلك هو بحث عن "البعد المفقود في هذا التراث"(2) البعد الذي من شأنه أن يساعدنا على الاقتراب من صياغة الوعي العلمي بالتراث، ويضيف في مكان آخر بقوله: إن الدراسة الأدبية –ومحورها مفهوم النص– هي الكفيلة بتحقيق وعي علمي نتجاوز به موقف التوجيه الإيديولوجي السائد في ثقافتنا وفكرنا (3).
يبني الدكتور أبوزيد آمالاً كبيرة على هذا الوعي العلمي بالتراث، ولكنها آمالُ ذات طابع إيديولوجي وسحري، تدّعي إعادة صياغة التراث بما يناسب العصر لتعمل فيه معاول الهدم والحذف. يقول: "إننا لا نستطيع أن نتقبل التراث كما هو، بل علينا أن نعيد صياغته، فنطرح ما هو غير ملائم لعصرنا، ونؤكد فيه الجوانب الإيجابية، ونحددها ونصوغها بلغة مناسبة لعصرنا، إنه التجديد الذي لا غنى عنه إن كنا نريد أن نتجاوز أزمتنا الراهنة، وهو التجديد الذي يجمع الأصالة بالمعاصرة"(4). هدف مشروع، من حيث المبدأ، لكنه عملياً يتموقع كما أسلفت ضمن خطابات المعاصرة العديدة حول التراث، لا بل إن الذي يعود إلى هذه الخطابات سيجد تطابقاً مدهشاً في نزعتها الخطابية والإنشائية والإيديولوجية بينها وبين خطاب نصر أبوزيد الذي ينتظم معها، ولا بأس أن نذكر هنا، فقد وصف غالي شكري كتابه الموسوم بـ "التراث والثورة" بأنه كتاب مقاتل في جبهة مشتعلة بالنيران من كل جانب، وأنه يتخذ مكاناً بالغ التحديد في الصراع اللاهب وأنه مؤسس على الدعامة الفكرية الراسخة الإسلامية وسجل حسين مروة الكلام نفسه عندما ذهب إلى القول بأن المنهج المادي التاريخي وحده هو القادر على كشف تلك العلاقة ورؤية التراث في حركيته التاريخية، وكذلك فعل مهدي عامل وطيب تيزيني وآخرون لا مجال لذكرهم الآن والنتيجة أن معظم هذه القراءات آلت إلى أنفاق مسدودة (5).
الهدف من المشروع هذا أنه يبحث عن مشروعيته من داخل الخطاب السياسي، فما يهدف إليه أبوزيد من إذكاء الوعي العلمي بالتراث هو سحب البساط والتعبير له من تحت أقدام التيار الراديكالي الإسلامي الذي يخافه أبوزيد(6)، ولذلك أسلفنا القول بأنّ الخطاب السياسي هو الحاضر الغائب في خطاب أبوزيد، وهذا ما يدفعنا إلى إثارة تساؤلين اثنين. الأول: هل المقاربة المنهجية التي قدمها أبوزيد لربط الدراسات القرآنية بالدراسة الحديثة المعاصرة، محكومة بإرادة سياسية وإيديولوجية، خاصة وأننا نرى بوضوح وجود الإرادة السياسية، والثاني، هل الإرادة السياسية في هذا الخطاب تصدر عن وعي سياسي يقبل الآخر والمختلف، أم أن الآخر منفي ومطرود ومحكوم عليه بالجهل والتجهيل؟(7).
النص القرآني وآفاق القراءة
في تفسيره للآية القرآنية ﴿وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين﴾(سورة يس:69)، يقول ابن كثير: "يقول -الله عز وجل- مخبراً عن نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه ما علمه الشعر ﴿وما ينبغي له﴾ أي ما هو في طبعه فلا يحسنه ولا يحبه ولا تقتضيه جبلَّتُهُ، ولهذا ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم بل إنْ أنشده زحّفهُ أولم يتمه. وقال أبو زرعة الرازي: حدثنا إسماعيل بن مجالد عن أبيه عن الشعبي أنه قال: ما ولد عبد المطلب ذكراً أو أنثى إلا يقول الشعر إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقال سعيد بن عروة بن قتادة: قيل لعائشة -رضي الله عنها-: هل كان رسول -صلى الله عليه وسلم- يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت -رضي الله عنها-: كان أبغض الحديث إليه، غير أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يتمثل ببيت أخي بني قيس، فيجعل أوله آخره، وآخره أوله، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: ليس هذا هكذا يا رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إني والله ما أنا بشاعر وما ينبغي لي)(8).
من وجهة نظرنا، أنّ الآية الكريمة والتفسير الذي يدور من حولها بالشرح والتأويل يخطان لنا وثيقة هامة تصلح لأن تكون بمثابة مدخلٍ إلى تلك المقاربة المنهجية بين النص القرآني والعلوم المعاصرة، وذلك بعيداً عن الميكانيكية التي قادنا أبوزيد إليها في بحثه عن جدلية العلاقة بين النص والواقع، وبين النص القرآني والقراءات المعاصرة. فمن وجهة نظرنا التي سنعززها اعتماداً على مرجعيات حديثة في دراسة النصوص أن القرآن ليس شعراً ولا نثراً ولا سجع كهان ولا مجرد نص مهم كما يرى أبوزيد، لكنني قبل ذلك سوف أدلف إلى مفهوم النص عند نصر أبوزيد.
مراراً يؤكد أبوزيد على أن (القرآن نص لغوي) و(القرآن نصّ محوري) و(الحضارة العربية الإسلامية حضارة النص)(9)، وأنه يجب دراسة القرآن بوصفه نصاً لغوياً، وأنه يجب التأكيد على تلك العلاقة الجدلية بين النص والواقع والتي تمثل مفتاحاً لفهم النص القرآني، وبين النص والثقافة كمدخل لفهم النص في ضوء النصوص الأخرى، الشعرية بالأخص نظراً لعلاقة التماثل التي يراها أبوزيد قائمة بين النص القرآني، حسب مصطلحه والنصوص الشعرية. والسؤال هو: هل القرآن نص أدبي يمكن أن نطبق عليه منهج التحليل اللساني، لنصل إلى النتائج التي قادنا إليها أبوزيد من أن النص القرآني هو نص ممتاز في معرض تفريقه بين النصوص الممتازة والنصوص الرديئة، وأنه انعكاس على المستوى الممتاز لعلاقة جدلية تربط النص بالواقع وبالثقافة، وأنه لا داعي للنفور الذي يبديه بعض المعاصرين من إطلاق كلمة نص على القرآن(10).
ثمة قضية أود أن ألفت نظر القارئ إليها وتتعلق بفهم نصر أبوزيد للنص، فعلى طول المسافة الزمنية من (الخطاب الديني) إلى (مفهوم النص) إلى (النص، السلطة، الحقيقة) ظل أبوزيد وباستمرار يعاود شرحه لمفهوم النص، وقد تساءل في كتابه الأخير (لماذا مفهوم النص)(11). وعبر هذا راح أبوزيد يسعى إلى "بلورة مفهوم للنص قد يزيل بعض جوانب التعتيم" ولكن وكما يبدو فقد ظل القلق يساور نصر أبوزيد، ويدفعه في كل مرة ومن جديد إلى شرح مفهوم النص، فلماذا هذا كله؟ ألا يشير هذا إلى المسكوت عنه، وهو أن نصر أبوزيد لم يهتد إلى سر النص، وبالأخص القرآن الكريم، كما لم يهتد إلى ذلك من قبله عميد الأدب العربي طه حسين الذي كان يقول عن القرآن "إنه ليس شعراً ولا نثراً إنه قرآن" ولا أدونيس في كتابه الجديد، (النص القرآني وآفاق الكتابة) بالرغم من أنه يجعل منه أفقاً بدلاً من أن يكون نفقاً وذلك عندما يحلق فوق الأسوار العالية للسور القرآنية(12).
من وجهة نظرنا واعتماداً على الأبحاث الحديثة في مجال علم الإناسة، والتي طالت النصوص الكبرى المقدسة أن القرآن نص مقدس وأنه ليس نصاً أدبياً يماثل النصوص الشعرية باعتبار الشعر ديوان العرب، إنه أكثر من نص، بتعبير ستراوس. إن القرآن ينتمي إلى الكلام، ومن هنا الخطأ الذي مارسه أبوزيد في تأكيده على أن القرآن نص لغوي وما ينطبق على اللغة ينطبق عليه، وهذا هو الخطأ، فاللغة -وحسب مناهج التحليل اللساني- تتكون من مجموعة من الوحدات المكونة لها أو الوحدات التكوينية التي تدخل في بنية اللغة وتعني بها الوحدات الصوتية والوحدات الصرفية والوحدات الدلالية. ومن وجهة نظر ستراوس أن النصوص المقدسة الكبرى والتي هي أكثر من نص، وكما مر معنا، لها وحداتها الخاصة والتي تقع من الوحدات الدلالية على نحوما تقع هذه الوحدات نفسها من الوحدات الصرفية، وهذه من الوحدات الصوتية، وإنما يختلف كل شكل من هذه الأشكال عن الشكل الذي يسبقه بكونه على درجة أرفع من التعقيد وقد أطلق عليها ستراوس اسم الوحدات التكوينية السمينة، وهذه الوحدات هي التي تجعل من لغة هذه النصوص المقدسة لغة مفارقة. وقد شبه ستراوس لغة هذه النصوص الميثولوجية بالطائرة التي تتحرك على مدرج اللغة إلى اللحظة التي يتوصل فيها المعنى إلى الإقلاع (13) وعندها ستعبر هذه النصوص عن حقائق أبدية تطال الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا هو شأن القرآن الكريم الذي ينفتح، وعبر حقله الدلالي، على حقائق كونية وإنسانية تطال بَدْءَ الخليقة والمعاد وهذه هي ميزة النصوص المقدسة الكبرى كما يرى مرسيا إلياد (14). من هنا نستطيع أن نفهم لماذا كانت لغة القرآن في مستوى أعلى بكثير من اللغة العادية أوالشعرية وأنها أبعد ما تكون عن كونها انعكاساً لواقع أو على أنها ثمرة لتفاعل جدلي بين اللغة والواقع، كما يحلو للدكتور أبوزيد الركض وراء هذا الصنم الفكري، ونفهم لماذا كان الرسول لا يقول الشعر إلا بعد تزحيفه في إطار تأكيده على أن لغة القرآن غير لغة الشعر، وبعكس ما يظن أبوزيد الذي يساوي بين لغة الشعر ولغة القرآن ليرد الصراع بينهما في النهاية إلى صراع إيديولوجي، فالاختلاف يقع من وجهة نظرنا، في العمق وهذا ما اهتدى إليه الباقلاني والنظّام الذي ربط إعجاز القرآن بإخباره عن الماضي وتنبئه بالمستقبل وهو الخيط نفسه الذي سيهتدي إليه ستراوس في إطار دراسته للأنساق الميثولوجية عندما يقول: "إنّ كنه النص المقدس لا يكمن لا في أسلوب صياغته ولا في نمط سرده ولا في تركيبه النحوي، بل في التاريخ (الحكاية) الذي يرويه"(15). ويضيف ستراوس قوله: "النص المقدس كلام، لكنه كلام يشتغل على صعيد شديد الارتفاع بحيث يتوصل المعنى فيه إلى الإقلاع"(16).
إن تأكيدنا على أن النص القرآني هو نص ذوبنية مفارقة والذي نشارك فيه -باحثين آخرين-يدفعنا إلى أن نقطع مع اجتهادات نصر أبوزيد، الذي نقف إلى جانبه في محنته، وليس على صعيد اجتهاداته في مفهوم النص والتي يستقيها من مرجعيات لغوية لا تصلح لدراسات النصوص المقدسة الكبرى.
الإيديولوجي والسياسي في خطاب نصر أبوزيد
إن اللازمة اللغوية التي يكررها أبوزيد في بداية كل فصل من فصول كتابه الموسوم بـ (مفهوم النص) ويختم بها الفصل والتي تقول: إن النص القرآني ثمرة لتفاعل جدلي بين النص والواقع - تفضح الخلفية المرجعية للباحث، وتثبت بالمقابل هيمنة قَبْليات المعرفة وغياب كل شروط وإمكانيات انبعاث الفكر. إن اتكاء نصر أبوزيد على الدراسات الألسنية عند جاكبسون وسوسير مع إعادة توظيفها لصالح ماركسوية هرمة وشائخة تظهر بصورة مضمرة في خطاب نصر أبوزيد مرة، وعلنية مرات عديدة، عندما يتحدث عن جدلية العلاقة بين النص والواقع والتي هي بمثابة صنم فكري لما يمل الفكر العربي المعاصر من عبادته. وهذا ما قاده إلى الابتعاد عن المفاهيم الحديثة وأقصد المنظومات الجمالية في عصر ما بعد الحداثة تحت وطأة إرادة الإيديولوجيا ببعدها السياسي المكشوف الحاضر بكل عريه في خطاب نصر أبوزيد، خاصة وأن أبا زيد مهتم بسحب البساط من تحت أقدام الحركات الأصولية. والذي يأخذ هنا صيغة إقصاء البعد الميتافيزيقي عن النص القرآني من خلال القول بأنه انعكاس لواقع، وهذا ما يدفع طيب تيزيني كما سنرى لاحقا إلى اقتفاء أثره. فالمنظومات الجمالية التي يرتكز إليها النقد الحديث، لم تعد تهتم كثيراً بمقارعة الحجة بالحجة، ولا بالمساجلات اللفظية التي تطغى على ما يسميه الجابري بـ "مثقفو المقابسات"(17)، ولا بالعقلية التآمرية التي تختفي أحياناً وتعاود الظهور في أحيان أخرى في خطاب نصر أبوزيد عندما يحاجج الحركات الإسلامية، فالنقد الحديث وقراءة ما لم يقرأ بعد في النص- هو بحث في الإمكان، وقراءة هاجسها الخلق والتجديد، وهدفها الكشف عن المستور والمخبوء والمسكوت عنه، أضف إلى ذلك أن النقد الحديث لا يرى النص انعكاساً لواقع، بل هو يقرأ وقائعية النص ليستدل منها على الواقع، فالنص له وقائعيته، ووقعه هو ليس مجرد انعكاس لواقع كما تتحدث المقولات ذات الجذر الماركسي التي يأخذ بها نصر أبوزيد(18).
إن القراءة الإيديولوجية في خطاب نصر أبوزيد هي التي تدفعه للخفة والتهور، على حد تعبير علي حرب، وذلك عندما يقول أن النص منتج ثقافي (19)، والذي يفضح المنهجية الواقعية وأزمتها على صعيد الخطاب العربي المعاصر، كما سنلاحظ لاحقاً في قراءة الطيب تيزيني للإسلام المحمدي الباكر. والتي قادتنا هي وغيرها إلى آفاق مسدودة لا هدف لها إلا إثبات موت الميتافيزيقيات الكبرى والذي هوبمثابة علامة فارقة لنزعة وضعية في قراءة التاريخ سادت في عصر الأنوار، حيث انتقلت نسختها المشوهة إلى الضفة الجنوبية للمتوسط، فتلقفها اليسار العربي الذي ما يزال يرددها بمناسبة وفي غير مناسبة.
من وجهة نظر فوكوفي إرادة المعرفة أن السلطة تمارس من نقاط لا تحصى، بحيث يمكن القول بأن كل تجربة في مجال الكتابة هي مجال لنشوء سلطة يمارسها الكاتب على القراء وسلطة نصر أبوزيد في سياق الضجة الإعلامية التي أثيرت من حوله، ووصلت أصداؤها للقاصي والداني باتت وكأنها عصية على النقد، فالرجل تقدمي وعلماني وعقلاني وتنويري ويستند في اجتهاداته إلى القراءات المعاصرة التي تغيب عند من يسميه بـ (أهل الخرافة والأسطورة). من هنا فإن محاورته سوف تثير من أسماهم علي حرب بـ (شرطة العقائد) وسوف تظهر على أنها خيانة لقيم التنوير والتأصيل العقلاني والإبداع والحرية التي ينادي بها المتنورون العرب والذين هم ضحايا أفكارهم المؤدلجة في النهاية والذين تحولوا إلى باعة أوهام، على حد تعبير علي حرب أيضاً وريجيس دوبريه(20).
إنّ الوعي العلمي بالتراث يتحول عند نصر أبوزيد إلى رقية، إلى تميمة، إلى أيقونة، يرددها باستمرار في وجه الجوقة الفاسدة، على حد تعبيره، والتي تضم الإسلاميين في جميع مستوياتهم، ومن وجهة نظرنا أن الوعي العلمي بالتراث عند الباحث، لا يزيد عن كونه وعياً إيديولوجياً أو تجديداً ومبايعة لإيديولوجيا مضت وانقضت.
إنّ الوعي العلمي بالتراث عند نصر أبو زيد يظل محمولاً على المتن من خطاب سياسي عربي معاصر يتميز بالقصور المنهجي والمباشرة، لا، بل إني أرى أن هذا الخطاب غير مؤسس على الحوار، بل هو مؤسس على السكوت وعلى التواطؤ المنهجي بين تيار عريض يمتد من فؤاد زكريا ومحمود أمين العالم إلى نصر حامد أبو زيد وغيرهم ويتحدد بالمقابل مع تيار آخر يتهمه أبو زيد بالظلامية والتهور وسيادة النزعة الخرافية والأسطورية، ويمتد من الشيخ الغزالي إلى عادل حسين وفهمي هويدي وغيرهم. والواقع الثقافي العربي يشي بهذه الشللية التي تهدد الفكر العربي في عقر داره وتضحي بإرادة المعرفة على مذبح الإيديولوجيا المتخشبة.
في نقد المنهج والمفاهيم عند طيب تيزيني؟
في إطار رؤية جديدة للتراث كما يصفها الطيب تيزيني تطاله من بواكيره الأولى وحتى اللحظة المعاصرة، خصص التيزيني الجزأين: الرابع والخامس من مشروعه الكبير لقراءة التراث الإسلامي، وذلك بعد أن قام في الجزء الثاني بدراسة " الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى" ليستنتج منه أن الفكر العربي في بواكيره الأولى هو فكر أسطوري (21)، ثم انتقل بعد ذلك إلى الجزء الثالث إلى دراسة التراث اليهودي –المسيحي كما يعبر عنه الكتاب المقدس، ليستنتج بعد دراسة معنونة وطويلة "من يهوه إلى الله" إلى أن الدين اليهودي– المسيحي هو لعبة كبار الكهنة(22).
أعود للقول: إنه في الجزأين الرابع والخامس قد اتجه إلى دراسة التراث العربي الإسلامي، وقد خصص الجزء الرابع لدراسة ما سمّاه بمقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر، 1994م وخصص الجزء الخامس لدراسة النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، 1997 م والجدير بالذكر هنا أن تيزيني يجعل من كتابه عن الإسلام المحمدي الباكر توطئة لا بد منها للكيفية التي يعالج بها إشكالية النص والواقع في التراث العربي الإسلامي. ومن هنا فإننا سنتجه أولاً إلى الإسلام المحمدي الباكر ثم إلى مفهوم النص القرآني لنرى الكيفية التي يقرأ بها طيب تيزيني إشكالية النص والواقع، وما هي طموحاته التي يبشر بها مراراً في أثناء ما يسميها "بملاحقته للنص وبحثه عن المسكوت فيه وعنه".
في مناوشتنا للباحث تيزيني سوف نتحرك من الهامش إلى المتن، وهذا عمل مقصود يهدف إلى نقد السلاح، بصورة أدق إلى نقد العقل المادي الجدلي في سفره الضخم هذا، الذي يتحدث فيه عن "الإسلام المحمدي الباكر" والذي يفصح عن نفسه على شكل مقدمات أولية. نقد مرجعيته ومفاهيمه بهدف إظهار المسكوت عنه، والذي يأخذ شكل أصنام نظرية أبدية، على حد تعبير الماركسي الانتربولوجي الفرنسي موريس غودلييه، ظلّت متحكمة في رقاب ما يسميها بالماركسية المبتذلة والتي تشكل إيديولوجيا نظرية باتت وكأنها عصية على كل تغيير(23).
من وجهة نظرنا إن هذه الأصنام النظرية تقع في المتن من خطاب الدكتور تيزيني الذي يزعم الاستنارة والانفتاح والحوار، وتعبر عن نفسها بعدة أشكال منها:
-التركيز على العامل الاقتصادي بوصفه المحرك الوحيد للتاريخ.
-جدلية السابق واللاحق.
-جدلية العلاقة بين الفكر والواقع.
-إلغاء الآخر واتهامه بالدونية الفكرية والتناقض الذي يحكم منهجه.
سأضرب صفحاً عن العامل الرابع، وسيتركز اهتمامي على العوامل الثلاثة الأولى، فقد جرى تضخيم العامل الاقتصادي وكثر الحديث عن الإنسان الاقتصادي والذي يعده غودلييه بمثابة صنم نظري داخل الماركسية المبتذلة. إن تيزيني يعد الديني وجهاً آخر للاقتصادي. هذا المنهج في الرؤية كان قد دشنه في كتابه الذي جئنا على ذكره والموسوم بـ "من يهوه إلى الله ". فالدّين في مرحلته الباكرة يظهر إنعكاساً لواقع اجتماعي إنتاجي، أما في مرحلته الثانية فيظهر متميزاً نسبياً عن تلك العلاقات. وهنا يحلو لتيزيني في بحثه عن الإسلام المحمدي الباكر أن يحول وجهه من نمط الإنتاج الآسيوي الذي يفسر تاريخ الشرق كما شرح ذلك في كتابه (الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى)(24)، إلى نمط الإنتاج التجاري السائد في مكة المكرمة قبل الإسلام، فقد أصبحت لغة التجارة لغة العصر، على حد تعبيره(25). واعتماداً على الاستشراق، يقوم تيزيني بإحصاء ثروة قريش التجارية قبل الإسلام، ليدلل على صحة استنتاجاته الاقتصادية، وليظهر لنا أن الإسلام الباكر ما هو إلا الحركة الإيديولوجية لهذا النشاط التجاري، لا بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك سعيًا وراء أصنامه الفكرية، عندما يخبرنا أن "القرآن مثل بنية نصية ذات طابع نخبوي خاطبت، بالدرجة الأولى سكان المدن عموماً والمثقفين منهم خصوصاً المنخرطين في حركة تجارية محلية وخارجية"(26).
على المستوى نفسه، وفي بحثه عن جدلية السابق واللاحق -يرى تيزيني أن الإسلام من شأنه أن يفصح عن خصائصه وسماته أو عن بعضها، حين يوضع في سياقه العام من سابقه الجاهلي، حيث يشن تيزيني هجوماً على هذا المصطلح بهدف تحريره من النظرة الدينية الإسلامية إليه، ومن راهنه آنذاك أي القرن السابع الميلادي (27). إن تيزيني يعيب على الإسلاميين تناقضهم الصريح في موقفهم من الجاهلية، التناقض الذي يحكم موقفهم من السابق واللاحق، ويؤدي إلى انتهاك هذه العلاقة.
إن جدلية السابق واللاحق عند الباحث تيزيني تمهد إلى نسف الدين من أساسه، وتيزيني لا يخفي ذلك -ومن هنا مخاوفه التي يذكرها في المقدمة- يقول: "إن جدلية السابق واللاحق من شأنها أن تردم الخواء الماورائي (الميتافيزيقي) المعتقد وجوده"(28).
إن جدلية السابق واللاحق عند تيزيني هي جدلية الفكر والواقع، وهذا بدوره -وكما نراه- صنم فكرياً يغزو أغلب التحليلات التي يكتبها عرب معاصرون. وأشير هنا وبالأخص إلى كتاب نصر حامد أبوزيد الموسوم بـ "مفهوم النص" الذي قرأناه في مقدمة هذا البحث ساعين إلى تبيان تهافت هذا الصنم الفكري انطلاقاً من الإنجازات الحديثة في قراءة النصوص المقدسة الكبرى كما يجسدها منهج الانتربولوجي الفرنسي كلود ليفي ستراوس.
إن تيزيني يؤكد على أن المواقف والنصوص لا يمكن النظر إليها إلا على أنها صيغ تظن وفق علاقة النص بالواقع. من هنا يدلف تيزيني إلى دراسة ما يسميه بالإسلام المحمدي الباكر، ظناً منه أنه يسهم في فتوحات مهمة في هذا المجال الواسع والمركب بآن. لكنه لا يفلح إلا في استثارة هواجسه التي تنتمي بحق إلى المادية الماركسية والتي سنستشف رؤاها ومزالقها في الفقرات التالية.
في الكتاب الموسوم "كي لا نستسلم" يقوم المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه بتلخيص لفحوى أطروحته عن نقد العقل السياسي، فمن وجهة نظره التي تؤسس لرؤية تغيب عن مرجعية الخطاب المادي الجدلي:
أولاً- السياسة ليست هي الاقتصاد مركزاً بحسب مزاعم المادية الجدلية، فثمة نصاب مستقل للسياسي.
ثانياً- أن السلوك السياسي للمتحدات البشرية لا تبدل منه التغيرات التي تطرأ على نمط الإنتاج الاقتصادي.
ثالثاً- بالإمكان الاستدلال على لا وعي سياسي قار، ليست الأديان والإيديولوجيات سوى أعراضه المتلونة.وهذا اللاوعي السياسي يستمد من بنية خاصة بكل مجتمع بشري أياً كان هذا المجتمع يقول دوبريه: أسمي هذا اللاوعي السياسي بالاكتمال، فما من مجموعة تبلغ تمامها بالعناصر المتضمنة فيها فقط. مما يعني أن هناك دائماً ما يمكن وصفه باللاعقلاني في داخل كل مجتمع بشري؛ إذ لا توجد الجماعة إلا بانغلاقها على ذاتها، ولا يعقل أن يتم لها هذا الانقلاب إلا بالرجوع إلى أمر متعال، كمثل بطل مؤسس أو فردوس مفقود أو يوم حساب…إلخ، وهذا اللاوعي كما يرى دوبريه ذو طابع تنظيمي ذلك أن المجتمعات البشرية تنظم نفسها بواسطة ترسيمات، هي في العمق ذات طابع استعادي وتكراري. ودوبريه يرى أن الماركسية كأداة تحليل ليست ذات فائدة إلا لبعض مراحل التاريخ المعاصر، وهو في تركيزه على مفهوم اللاوعي السياسي إنما يبحث عن الديني في خطاب اللاوعي هذا، والذي يتميز باستقلاليته عن الاقتصادي بحيث يمكن الحديث عن وعي ديني قار مستقل تماماً عن الاقتصادي الذي يلهث وراءه تيزيني في بحثه عن الإسلام الباكر (29). وقد قام الجابري منذ سنوات في بحثه عن العقل السياسي العربي بتوظيف مفهوم اللاشعور السياسي عند دوبريه، في قراءته لهذا العقل ولكن بصورة مختلفة عن دوبريه، فالجابري راح يبحث عن السياسي وراء الديني باعتبار السياسي هو المسكوت عنه في الخطاب الديني (30).
من ستراوس إلى موريس غودلييه ثمة تأكيد على أن الخطاطة التطورية التي جاءت بها المادية المبتذلة باتت بحكم الممجوجة والملغاة، والتي تعبر عن نفسها بالقول أن الديني والسياسي هما بمثابة التابع للمتحول الاقتصادي، والتي تحضر في كل سطر من سطور طيب تيزيني في الإسلام المحمدي، وها هو ذا ستراوس يؤكد في مرافعته الشهيرة وأقصد كتابه الموسوم ب" الفكر البري" والذي يعد بحق أهم مرافعة ثقافية جاءت من حقل الإناسة (الانتربولوجيا) للدفاع عن المجتمعات القديمة التي أسست نهجاً ورؤية جديدة في حقل العلوم الإنسانية. أقول يؤكد ستروس أن التدني في المعاش عند هنود أمريكا الشمالية لا يستتبعه بالضرورة تدن في المستوى الثقافي، لا، بل إن البحث يثبت غنى هذا المستوى واستقلاليته عن الواقع، فالثقافي يتميز باستقلالية عن الاقتصادي (31)، من هنا دعا دعوة غودلييه إلى ثورة كبيرة في حقل العلوم الإنسانية تمهد لتجاوز المادية المبتذلة في قراءتها للتاريخ وبالأخص لتاريخ الدين.
من دوبريه إلى ستراوس وثمة تأكيد على أن لحمة الجماعة لا تتم إلا بالرجوع إلى أمر متعال، أو بحسب ستروس لا يمكن تفسير الشرط التاريخي إلا على أنه شرط فوق تاريخي يجد مصدره في حقيقة أو مبدأ يتجاوز التاريخ. وهذا يعني، وبحسب خطاب العلوم الإنسانية الحديث، أننا لا نعثر على التاريخ لذاته، بل على التاريخ المقدس للجماعة البشرية.
تيزيني يطيح بالمقدس جانباً، فهذه أوهام ميتافيزيقية ينذر نفسه إلى ردمها في إطار بحثه عن جدلية السابق واللاحق. وهو عندما يقرأ التاريخ، وبالأصح عندما يمدد التاريخ على سرير المادية الجدلية، يضع وعلى سبيل المثال - جميع النصوص التاريخية على مستوى واحد. فهو لا يميز بين نص كتبهُ الطبري في القرن الثامن الهجري، ونص آخر كتبه ابن كثير في القرن الثالث الهجري. إنه لا يلحظ الهوة التي أصبحت تفصل بين الحدث التاريخي والحدث القدسي كحدث استعادي وتكراري؛ لأنه يبحث في علاقة الإنسان بالإنسان، ولذلك فهو يحتوي الحدث التاريخي، يحل محله ويحجبه لصالح الحقيقة الخالدة. لا بل إن تيزيني لا يفلح أحياناً في قراءة النص القرآني الكريم، والذي نطلق عليه كلمة نص تماشياً مع خطاب سائد يجهل حقيقة القرآن الكريم والذي هو بحق أكثر من نص، على حد تعبير كلود ليفي ستراوس، في حواره مع ريمون بيللور(32)، فالطيب تيزيني في تفسيره للآية التاسعة والعشرين من سورة الجاثية﴿هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون﴾ يرى أن ما قام به الرسول الكريم ما هو إلا استنساخ لما قدّم سابقوه ومعاصروه. وهو تفسير يقطع مع كل التفاسير القرآنية. فعلى سبيل المثال، يقول ابن كثير في تفسيره للآية ﴿إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون﴾ أي أن الله يقول: ﴿إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم﴾، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره: "تكتب الملائكة أعمال العباد ثم تصعد بها إلى السماء" (33).
إن تيزيني يمارس شططاً في قراءة التاريخ عندما يتحدث عن الحتمية التاريخية التي أفرزت الإسلام المحمدي الباكر، وعلى حد تعبيره، إذ إن نمط الإنتاج التجاري والذي مهد إلى انقسام المجتمع إلى طبقات عليا من المرابين وطبقات وسطى ودنيا من المهمشين كان يجعل من الإسلام بمثابة نتيجة. لا، بل إن تيزيني يقودنا، وعبر صنمية السابق واللاحق وفي إطار بحثه التاريخي عن الحنيفية كأصل للإسلام إلى القول: إن النسق الإيديولوجي الحنيفي لا يمكن النظر إليه إلا بوصفه واحداً من المصادر الإيديولوجية للحركة الإسلامية (34).. وفي إطار بحثه هذا يرى أن ورقة بن نوفل كان المعلم الأول (35). والشيخ العارف للتلميذ الخفر اللبق(36). وبهذا يعيدنا إلى مستوى كتابات لا تاريخية عن الإسلام مثل كتاب "قس ونبي" لأبي موسى الحريري كما يعلن عن نفسه (37).
لا يكتفي تيزيني بذلك بل يندفع إلى القول من زاوية رؤية اقتصادية أن زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم- من خديجة "مخطط له ومقصود وناجح" ويضيف بقوله: نميل إلى ترجيح أن ورقة وخديجة مثّلا نقطتين حاسمتين في تكوين شخصية محمد باستدراج محمد الشاب –عبر تعيينه مدير أعمال لتجارتهم ثم الزواج– إلى دائرة الفكر النوفلي نسبة إلى ورقة بن نوفل (38).
الاستشهادات السابقة المأخوذة عن طيب تيزيني ما هي إلا عينة من فيض كبير لا يجدي معه الحوار ولا تنفع معه مقارعة الحجة بالحجة، ولذلك آثرنا مناوشة منهجه لنبين مدى قصوره عن فهم الإسلام الباكر، وقد لا نتردد في القول بأن خطاب تيزيني هو نموذج للقراءة المستعجلة والبعيدة عن الإنجازات الحديثة في مجال العلوم الإنسانية التي من شأنها أن تدفع باتجاه تمديد التاريخ الإسلامي عنوة على سرير المادية المبتذلة.
من هنا فقد حاولت في هذه الدراسة التي أريد لها أن تكون بمثابة توطئة لقراءة رؤيته للنص القرآني كما سنرى بعد قليل أن أؤكد على عجز المادية التاريخية عن تقديم قراءة ناجعة للتاريخ والفكر الإسلامي عموماً.
النص القرآني: عودة إلى إشكالية النص والواقع:
من "الإسلام المحمدي الباكر" في مقدماته الأولية التي يتكئ عليها تيزيني لفهم النص القرآني، إلى "النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة" يتحرك طيب تيزيني، يحدوه طموح كبير كما يعلن عن ذلك "في ملاحقة النص، في سماته البنيوية الكبرى وفي احتمالاته القرائية "(39). وما يقصده بالنص هنا هو"النص القرآني -الحديثي" بحسب تعبيره، أي القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، بمعنى أنه يتجه نحو" الثقافة العالمة "(40)، وهذا ما يفصح عنه مراراً في بحثه عن آفاق رحبة.
يحذر تيزيني منذ البداية من الوقوع في فخ القراءة/ الرؤية الميكانيكية للتراث والتي تختزله في بعد واحد، ولذلك فهو يتجه باتجاه ما يسميها بالقراءة/ الرؤية التضايفية يقول: إن رؤية تضايفية جدلية يكون القارئ والنص (الذات والموضوع) كلاهما فاعلين، وبمقتضاها تقف على طرف نقيض مع تلك الرؤية الأخيرة الميكانيكية فهي تبدأ حيث تنتهي تلك، وتتوقف، حيث تبدأ هذه إياها(41).وفي سياق هذا الطموح إلى رؤية جديدة يقوم تيزيني بإبعاد تلك القراءات السابقة للنص، القراءات الوثوقية الإيمانية والتي ينعتها بالقراءات الأصولية/ السلفوية على حد تعبيره يقول: نحن نرى أن إنجاز هذه المهمة يقتضي التعرض لبعض القضايا المنهجية الدقيقة التي لها أهمية خصوصية فيما يتصل بالمعيقات المتحدرة من الإيديولوجيا (الذهنية) السلفوية، بصورة خاصة أولاً، وبالمهمة المذكورة نفسها ثانياً، ونخص بالذكر من تلك القضايا حدود العلاقة بين الوهمية (ذات الطابع الإيديولوجي هنا) والواقع، وجدلية النص والوضعية الاجتماعية المشخصة (42).
إن تيزيني هنا يقتفي خُطا نصر أبو زيد، فالهدف من هذه القراءة هو سحب البساط من تحت أقدام الأصولية الإسلامية السلفوية كما ينعتها تيزيني والمسكونة بهاجس العودة إلى الأصول الإسلامية الأولى، والتي كثيراً ما يعبر عنها "إسلاميون أصوليون منظِرون ومخططون"(43)، من هنا نعته لهذا التيار بـ"الأصولوية" ودعوته إلى تجاوز ذلك الموقف الملتبس المحتمل وإلى تجاوز ما سماها بـ "القَبْـليات الإيمانية في دراسة النص الإسلامي عموماً "(44)، والتي تعج بها القراءات الأصولوية بحسب تعبيره التهكمي.
يقتفي تيزيني أثر المستشرقين الكلاسيكيين (من مثل بلاشير وهنري ماسيه وجاك بيرك) في دراسته للنص القرآني الحديثي ولكنه يتكئ أكثر على أعمال نصر أبو زيد وعلى أعمال الروسي باختين صاحب "الماركسية وفلسفة اللغة" الذي يرى أن الوعي نفسه لا يمكن أن ينبثق ويترسخ كواقع إلا بواسطة التجسد المادي في الأدلة والذي كان يصر على عدم فصل التواصل وأشكاله عن قاعدته المادية(45)، وهذا ما يفسر قول تيزيني: "إن النص يمثل واقعة مادية حائزة على موضوعيتها التي لا سبيل إلى التشكيك فيها، سواء أقام القارئ معه علاقة أم لم يقم، وموضوعية هذه الواقعة المادية-النصية-لا ترتد إلى بنيتها اللفظية وحدها، أو المعنوية وحدها، إضافة إلى أنه حتى وإن تم الإقرار بالوحدة اللفظية المعنوية لتلك الواقعة وتم معه الأخذ تاريخياً جدلياً بالمطلب التفكيكي البنياني (البنيوي) القائم على ضرورة تجنب قراءة المعاني الخاصة بتلك الأخيرة قبل قراءة (ألفاظها) فإن ذلك سيكون – إذا ما أخذ في ضوء المنهج البنياني – غير مهيأ للحفاظ على (أصلية)الواقعة النصية، التي يستعرضها ويقرؤها"(46).
إنه يرفض القراءة البنيوية للنص بحجة قصورها المعرفي وانحيازها. وذلك على الرغم من اعتماده حفريات ميشيل فوكو، لوجود (طبقات رسوبية كبيرة) ويرفض كما أسلفت مجمل القراءات السلفية المحكومة بـ"الوهم السلفوي" ويتجه بكليته نحوما يسميها بـ"الوضعية الاجتماعية المشخصة"التي من شأنها أن تكون مفتاحاً للبحث الاجتماعي والتاريخي والتراثي الذي يجعل من النص القرآني موضوعاً للبحث. والذي من شأنه أن يمهد إلى ما يسميه تيزيني بـ"الإحداثيات المفتوحة" بـ "اتجاه النص القرآني-الحديثي"(47).
ما بين النص والواقع "الوضعية الاجتماعية المشخصة" يجد الباحث في خطاب تيزيني نفسه مدفوعاً إلى البحث في أروقة هذه الإشكالية، إشكالية الوهم والواقع كما يصفها تيزيني، لينقل معه أيضاً حدود العلاقة بين الوهمية "لغة الغيب" والواقع، وجدلية النص والوضعية الاجتماعية المشخصة. ولكن هذه الاندفاعية سرعان ما ترتد على نفسها مع النتائج التي تقودنا إليها هذه القراءة التي يريد صاحبها أن يجعل من النص القرآني موضوعاً للبحث الاجتماعي والتاريخي والتراثي، والنتائج التي يقودنا إليها تيزيني هي:
ـ إخراج النص من حقل الاعتقاد الديني؟؟.
ـ إن القرآن خضع في أثناء جمعه "لعمليات أدت إلى اختراق متنه زيادة ونقصانا، وذلك بتأثير ما يسميها بالمصالح السياسية المتصارعة خصوصاً التكوينات السياسية والإيديولوجية الإسلامية الناهضة"(48).
ـ إن عدم جمع القرآن في زمن النبي محمد يدل من وجهة نظر تيزيني على أنه لم يكن هناك شيء حاسم على الأقل "وأن إنجاز هذه العملية لاحقاً قد اعترضته صعوبات كثيرة وجدية" (49).
ـ أما فيما يتعلق بالنص الحديثي الذي هو نص على نص "أصلي مفترض" كما يقول، فإن هناك استحالة في الوصول إلى "النص الحديثي الأصلي" (50).
ـ وأن الركام الهائل من الأحاديث يظهر من وجهة نظر تيزيني على أنه بمثابة قراءة مختلفة للنص الحديثي تختلف باختلاف الوضعيات الاجتماعية المشخصة التي انطلق منها أصحابها(51).
ـ إن الإقرار بوجود حديث نبوي مكتمل لفظاً ومعنى، مسألة تفتقد المصداقية التوثيقية الحديثة، أو على الأقل تستثير تحفظاً وشكاً شديدين(52).
ـ على أن الأهم هو أن "أهل السنة لم يكونوا يمثلون نمطاً ذهنياً واحداً أو موحداً، وإنما كانوا وما يزالون يفصحون، في أوساطهم الواسعة، عن تمايزات واختلافات وصراعات تتعمق حيناً وتخبو حيناً آخر، وفقاً لتوفر شرائط الحرية الفكرية عموماً والدينية بصورة خاصة وحضورها-على نحو أو آخر- في المجتمع العربي"(53).
ـ لا ينجح تيزيني في قراءة جديدة للنص القرآني وذلك بسبب من خلفيته المرجعية المؤدلجة حتى إنه لا يأتي بالجديد على هذا الصعيد، ولذلك فهولا يجد من وسيلة غير الاعتراف بالنص ثم نفيه عندما يسقط عنه مرجعيته الميتافيزيقية بحسب تعبيره ليجعله أسير ما يسميها تيزيني بالوضعية الاجتماعية المشخصة التي لا ترى النص إلا انعكاساً للواقع وهذا هي إحدى الأصنام الفكرية التي ما زالت تأسر الخطاب العربي المعاصر في فهمه للنص القرآني.
**********************
الهوامش والمراجع:
*) كاتب سوري.
1- نصر حامد أبو زيد، الخطاب الديني(بيروت، دار المنتخب العربي، 1992).
2- نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص(بيروت، المركز الثقافي العربي، 1990) ص10.
3- المصدر نفسه، ص10.
4- المصدر نفسه، ص16.
5- انظر كتابنا "أزمة الخطاب التقدمي العربي (بيروت، دار المنتخب العربي، 1995) الفصل الثالث.
6- أبو زيد، مفهوم النص، ص17.
7- نصر حامد أبو زيد، التفكير في زمن التكفير (القاهرة، دار سينا، 1995).
8- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، المجلد الثالث (بيروت، دار المفيد، 1983) ص538-539.
9- أبو زيد، مفهوم النص، ص9.
10- المصدر نفسه، ص18.
11- نصر حامد أبو زيد، النص، السلطة الحقيقة(بيروت، المركز الثقافي العربي، 1995) ص149.
12-أدونيس، النص القرآني وآفاق الكتابة (بيروت، دار الآداب، 1993).
13- كلود ليفي ستروس، الإناسة البنيانية، ترجمة حسن قبيسي (بيروت، المركز الثقافي العربي، 1995) ص228 وما بعد.
14- مرسيا إلياد، الحنين إلى الأصول، ترجمة حسن قبيسي(بيروت، دار قابس، 1994) ص5.
15-ستروس، المصدر نفسه، ص230.
16- المصدر نفسه، ص230.
17-محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1996) ص54.
18-علي حرب، نقد النص(بيروت، المركز الثقافي العربي، 1993) ص199-220.
19-المصدر نفسه، ص208.
20-المصدر نفسه، ص218.
21-طيب تيزيني، الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى(دمشق، دار دمشق، 1982) ص84.
22-طيب تيزيني، من يهوه إلى الله(دمشق، دار دمشق، 1985) ص15وص49.
23-موريس غودلييه، الوظيفية والبنيوية والماركسية، ترجمة عصام الخفاجي، مجلة النهج/العدد/33/، 1990.
24-تيزيني، الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى، ص84.
25-طيب تيزيني، مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر(دمشق، دار دمشق، 1994) ص72.
-26-المصدر نفسه، ص54.
27-المصدر نفسه، ص45.
28-المصدر نفسه، ص50.
29-ريجيس دوبريه وجان زيغلر، كي لا نستسلم، ترجمة رينيه الحايك وبسام حجار(بيروت، المركز الثقافي العربي، 1995) ص37-38.
30-محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي(بيروت، المركز الثقافي العربي، 1990).
31-ستروس، الفكر البري(بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات، 1984)ترجمة نظير جاهل.
32-مجلة بيت الحكمة، العدد الرابع، عدد خاص عن كلود ليفي ستروس، الدار البيضاء، 1987.
33-ابن كثير، المجلد الرابع، ص137.
34-الإسلام المحمدي الباكر، ص256.
35-المصدر نفسه، ص260.
36-المصدر نفسه، 325.
37-هو الأب جوزف القزي والذي يسعى إلى إقناع المسلمين بأنهم مسيحيون وقد صدر كتابه السالف الذكر في سياق الحرب الأهلية اللبنانية.
38-الإسلام المحمدي الباكر، ص268وص270.
39-طيب تيزيني، النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة(دمشق، دار الينابيع، 1997) ص7.
40-المصدر نفسه، ص8وص160.
41- المصدر نفسه، ص62.
42-المصدر نفسه، ص88.
43-المصدر نفسه، ص26.
44- المصدر نفسه، ص84.
45-المصدر نفسه، ص49.
46-المصدر نفسه، ص41.
47-المصدر نفسه، ص42.
48-المصدر نفسه، ص63.
49-المصدر نفسه، ص65.
50-المصدر نفسه، ص65.
51-المصدر نفسه، ص69.
52-المصدر نفسه، ص75.
53-المصدر نفسه، ص71.
0 التعليقات:
إرسال تعليق