يحفر د. نادر كاظم عميقا في تربة الشروط التاريخية والاجتماعية والثقافية التي انتجت خطاب اللون في سرديات العلاقة بين الاعراق في إطار الثقافة العربية والإسلامية في العصر الوسيط، مستلهما خطابات المعرفة النقدية المعاصرة، وآلياتها من تمثيل وتفكيك وبنية، ومنفتحا على علوم الانسان الاجتماعية والانثربيولوجية والأدبية كاشفا عن مرجعيات هذا الخطاب وآلياته وتمظهراته في المحكيات والمرويات والنصوص المنجزة من خلال بابين،خصص الأول منهما لمرجعيات المتخيل والتمثيل الثقافي، الذي عالج فيه اسئلة الأسود في مرجعيات المتخيل العربي عبر مداخل التاريخ بوصفه سردا.
الجبلة البيضاء والقراية المتخيلة وسرديات الصراع والوفاق، ومرجعية الأنساق الثقافية- الدين واللغة والرمز- من مداخل مفهوم النسق الثقافي، والدين بوصفه نسقا ثقافيا، والآخر في التصور الإسلامي والأسود بين شمولية الدعوة ومجازيات الثقافة، ودلالات السواد الرمزية - الأحلام واللباس والحيوان- وفصل آخر بعنوان مستويات المغايرة وقوة التمثيل من مداخل: الأسود والمغايرة والحاجة الى التمثيل وخطاب الاستغراق والصور النمطية عن السود، ولعنة السواد وامثولة النيئ والمطبوخ والمحترق.
وخصص د. نادر كاظم الباب الثاني للحفر في موضوع الأسود والتمثيل الثقافي التخييلي. من خلال فصلين الأول تحت عنوان الأدب بوصفه تمثيلا ثقافيا ويناقش فيه قضايا السرد وعبور الحدود ومجال الآخرية، أما الثاني الأسود والتمثيل السفري فينافس قضايا الشعر وخطورته في التمثيل والتواطؤ بين الجمالية والهيمنة والتمثيل والتمثيل المضاد.
يصف د. عبد الله الغذامي معالجة الكاتب عبر مدخل اللون في مقدمته للكتاب بقوله:
ولا شك أن نسق (التلوين) الثقافي أمر من أشد الأمور حساسية في أي ثقافة وليس عندنا فحسب، ولكنه يزداد خطورة في ثقافتنا حينما نكتشف هذا الضيم وكيف هو مخالف لأهم مبادئنا الدينية التي نجنح إلى التباهي بها وحق لنا ذلك لولا ما يجتاحها من أمراض ثقافية صارت مع الزمن نسقا مزمنا، ونسق (التلوين) هو نسق يدخل في كل مناحي الحياة، وتبدأ الثقافة في تلوين الصورة عن نفسها وعن العالم من حولها مثلما تفعل الكاميرات، ثم تأتي منح ثقافية ذات طابع اجتماعي عام فتخص بعض الألوان بمسميات تقوم مقام الطبقات ومثلما لديك طبقات اجتماعية تكونت من الزمن وفرقت بين المتساوين فإن اللون قد مر عليه تنصيف مماثل وتميز لون عن لون، وجرى تقسيم الألوان على المجتمعات، وكما يتميز المجتمع بتقاليده وفنه وثقافته فإنه يميل إلى منح لون بشرته قيمة تحاكي قيمته السياسية الثقافية في نفسه، ويكون لونه هو اللون الأرقى بما أن اصحاب هذا اللون هم الأرقى - حسب الوهم الثقافي أو حسب إيهام الذات بذلك - وفي النصوص ما يشير إلى تقبيح الجسد الأحمر كأحمر عاد وألوان العلوج وللحمرة نصيب من التقليل قد لا يبلغ ما بلغه اللون الأسود من الإقصاء ولكن الحالتين تدلان على أن اللون نسق ثقافي تنبني عليه تصورات، وهي كلها تحمل الشيء ونقيضه - كما هو شأن النسق الثقافي - حيث يكون هناك معنيان متناقضان ويتصاحبان في تجاور دائم، وبمقدار ما تقول بإنسانية ثقافتك وعدالتها الروحية تأتي جمل ثقافية كاشفة تقول بعكس ذلك. وهذه هي سيرة أي نسق ثقافي بما أنه يتغذى ويتوسل بالعمى الثقافي لضمان ديمومته ومفعوليته.
وحول مفهوم التمثيل يقول الكاتب: لا تخلو ثقافة من الثقافات من تمثيل للذات أو للآخر، فالتمثيل هو الذي يعطي الجماعة صورة ما عن نفسها وعن الآخر، وهو الذي يصنع لهذه الجماعة معادلا لما يسميه بول ريكور بـ «الهوية السردية» للجماعة. ان تمثل بالمعنى المسرحي، يعني ان تتقمص الدور وتتصدر المشهد وتفرض حضورك على الآخرين، وان تمثل بالمعنى النيابي، هو ان تتحمل مسؤولية النطق بالنيابة عن الآخرين الممثلين. وهي وضعية لم تبلغها الثقافة العربية إلا مع ظهور الاسلام الذي دفع ثقافة العرب الى الواجهة، وأتاح لها إمكانية التوسع والامتداد في بقاع العالم الوسيط، كما وفر لها إمكانية كبيرة لاحتضان الآخرين المختلفين واستيعاب ثقافاتهم المتنوعة. وبهذه الخصوصية في استيعاب الآخرين المختلفين اشتقت هذه الثقافة فرادتها المميزة على مستوى الهوية الثقافية، حيث كانت الهوية في هذه الثقافة بمثابة مشروع غير ناجز ولا مكتمل، بل هي سيرورة متنامية تعظم بتكاثر الداخلين في الاسلام والمنضوين تحت رايته. وبما ان مجال الهوية الثقافية غير محدد ولا مؤطر بحدود نهائية، فإن مجال الآخرية كذلك بقي مفتوحا دون رسم نهائي لحدوده. فالسؤال عمن هو «الآخر» في هذه الثقافة سؤال لا تتاح الإجابة عنه بيسر إلا بطريقة سلبية، أي ان الآخر هو «غير المسلم»، و«غير المسلم» هذا قد يعتنق الاسلام ويصير مسلما ومنضويا في الهوية الثقافية العربية، لا لأننا نقرأ في هذا الكتاب نصوصا كتبت أصلا باللغة العربية دون غيرها من اللغات الإسلامية السائدة في المجتمعات الإسلامية الأخرى، بل لأننا لا نضيف جديدا لما هو بدَهَي من كون الإسلام من أهم مكونات هذه الثقافة الى درجة أنه ورد في الأثر أنه «من ولد في الإسلام فهو عربي»، و«من تكلم العربية فهو عربي، ومن أدرك له اثنان (ابوان) في الاسلام فهو عربي». إن هذه الأقوال تعبر عن انفتاح الهوية الثقافية وقدرتها على احتضان الآخرين، كما انها تعبر عن تسامح الإسلام وتجاوزه المشهود لحواجز اللون والعرق، إلا انها تنطوي في الوقت ذاته على مركزية قومية وعرقية جعلت مجتمعات الإسلام المتباينة والممتدة والمنتشرة في بقاع العالم مشدودة بقوة الى المركز، الى ثقافة العرب التي انتصرت، وفتحت، وجعلت من نفسها قوة الإسلام المركزية والمرجعية.
لقد اصطدمت هذه الثقافة بآخرين «أعداء»، لأنهم «غير مسلمين»، وينصبون العداء للإسلام والمسلمين، وليس هذا بدعا من الأمور، فلكل ثقافة آخرها العدو، إلا ان الغريب في الموضوع ان هذه الثقافة تعاملت بصورة عدائية مع آخرين «غير مسلمين» لكنهم لم ينصبوا العداء للإسلام، أو مع آخرين دانوا بالإسلام، إلا ان عمق الاختلاف والمغايرة المضاعفة بينها وبينهم كانا أكبر من طاقة التسامح التي نشرتها هذه الثقافة من الاسلام. ولعل أبرز مثال على ذلك هو تلك الكيفية التي تعاملت بها هذه الثقافة مع الآخر الأسود المسلم وغير المسلم، هذا الآخر الذي وصم بصفات انتقاصية، وصوُر مشوةَّ ومشوِّة ترسبت في المتخيل العربي، ورسختها ممارسات التمثيل المتنوعة الخطابية وغير الخطابية. وهي ممارسات عكست بوضوح مدى الغلبة التي تمتعت بها سياسات الهيمنة وتحصين الهوية ضد اختراقات الآخر الأجنبي والمختلف ثقافيا.
وبناء على ذلك يمكننا القول إن في هذه الثقافة آليتين تشتغلان معا وبصورة متعارضة: الآلية الأولى هي آلية الجذب والدمج والاحتضان، وهي التي توافرت في هذه الثقافة بفضل الاسلام واعتماده على مبادئ عالمية تبشر برسالة توحيدية تهدف الى هداية الناس أجمعين. أما الآلية الثانية فهي آلية الطرد وهي التي تعبر عن رغبة هذه الثقافة في تحصين هويتها ضد الآخرين. وهكذا فإن الآلية الأولى تخلق هوية ثقافية منفتحة ومتسامحة، فيما تصنع الآلية الثانية هوية مغلقة و«متوحشة» ومتصارعة مع الآخرين.
الأسود في مرجعيات المتخيل العربي
وفي الجانب المتعلق بصورة الأسود في المخيال السردي والأدبي يضرب الكاتب عميقا في ثرية الشروط التي أنتجت هذا الخطاب ففي الفصل الأول فهو تحت عنوان «الأسود في مرجعيات المتخيل العربي» وهو يتناول بالدرس والتحليل أهم وأبرز تلك المرجعيات والمحركات الخفية التي كانت تحرك هذا المتخيل وتحكم طبيعة اختزاله للآخر الاسود وتدعم تمثيلاته عنه وركزت في الكتاب على مرجعيتين اتصور أنهما لعبا دورا مهما في توجيه تصورات المؤرخين الجغرافيين والرحالة والفقاء وعلماء الكلام والفلاسفة والبحارة والتجارب والأدباء وعلماء اللغة وغيرهم من الفاعلين في الثقافة العربية خلال العصور الوسطى ممن اسهموا في صياغة المتخيل الجماعي الخاص بالآخر وغيره: الأولى هي مرجعية التاريخ وحاولت هنا أن أعيد تركيب نمط العلاقة بين العرب والسودان في تاريخ العرب قبل الاسلام وفي صدره وهي علاقة صراعية في اغلبها لم يتخللها السلم والتسامح الا عند بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وهجرة المسلمين الأوائل الى الحبشة وبينت أن هذه اللحظات التي عرفت ما اسميته «سردية الوفاق» بين العرب والسودان إنما كانت مخترقة بعناصر تسربت من بقايا سرديات الصراع القديم بين الاحباش والعرب في الجنوب (أي احتلال اليمن) والشمال (أي السعي لهدم الكعبة) ومع ذلك فإن هذا السياق التاريخي بسردياته الصراعية والوفاقية قد تميز بعلاقة ندية بين الطرفين فقد كان الاحباش أندادا للعرب ينتصرون عليهم حينا وينهزمون أمامهم حينا آخر كما انهم كانوا اصحاب ديانة ربطت بينهم وبين حضارة الروم برباط وثيق هذا في الوقت الذي كان فيه عرب الشمال وثنيين في أغلبهم وعرب الجنوب متهودون في جملتهم وحين جاء الاسلام اصبح العرب اصحاب دين سماوي ستكتب له الغلبة على بقية الاديان في جزيرة العرب ولم يمض ربع قرن على ظهوره حتى كانت جيوش الفتح الاسلامي تطرق ابواب العراق والشام ومصر مهددة بالزوال الجزئي أو الكلي أعظم الحضارات المعاصرة لها ومنطلقة الى ما وراءها من بلدان في الجنوب والشمال والغرب والشرق عندئذ لم يعد الاسود ندا للعربي بل شيئا فشيئا اخذ الاسود الزنجي المسترق يحل محل الأسود الحبشي الند واصبح العربي فاعلا ومفعما بقيم يراها سامية والاسود منفعلا ويفتقر الى تلك القيم السامية وفي هذه الفترة التي استرق فيها الاسود بصورة كبيرة وتم وضعه في آخر السلم الاجتماعي والطبقي في هذه الفترة ظهرت تلك المدونات والمتون والمرويات التي نشطت في تمثيل الآخر الاسود وتركيب صور انتقاصية ونمطية تحشر الاسود في دائرة الضلال والفسوق والحيوانية والتوحش.
ويتناول الفصل الثالث المعنون بـ «الاسود والتمثيل السردي» تلك المرويات الكبرى في الثقافة العربية خلال القرون الوسطى وقد وقع اختيارنا على خمس مرويات كان للأسود حضور لافت ومميز وذو دلالة فيها وهي «سيرة بني هلال» و«سيرة الأميرة ذات الهمة» و«سيرة عنترة بن شداد» و«سيرة الملك سيف بن ذي يزن» و«الف ليلة وليلة» وهي مرويات تتوافر على سمات مشتركة كثيرة فهي مرويات شعبية وشفاهية الاصل ومجهولة المؤلف وهو ما جعل منها مرتعا خصبا لحضور المتخيل الثقافي الجماعي وتمرير تمثيلاته الانتقاصية عن الآخر الاسود دون مراقبة أو مساءلة وباستثناء حالات محدودة كما هو الشأن في «سيرة الأميرة ذات الهمة» فمن النادر الحديث عن تمثيل سردي محايد وبريء ومتسامح مع الاسود وذلك حتى في المرويات السردية التي أعطت دور البطولة فيها الى رجل اسود كما في «سيرة بني هلال» و«سيرة عنترة بن شداد» وإذا كان الالتباس والغموض والتوتر هو الذي يحكم تمثيل الاسود في هذه السير الشعبية فإن النص السردي الذي كان قاسيا تجاه الاسود هو «الف ليلة وليلة» الذي جمع بين الاسود والمرأة في محور القهر والخضوع وفي غريزة الجنس البهيمية أو الشهوانية المفرطة.
وأخيرا يتناول الفصل الرابع والمعنون بـ «السود والتمثيل الشعري» جملة التمثيلات التي أنتجها الشعر العربي عن الأسود، وهي تمثيلات تظهر حجم التمثيل السلبي الفادح في خطورته، الذي مارسه الشعر العربي على الآخر الأسود. وحاولنا في هذا الفصل الكشف عن ذلك التواطؤ الدفين بين الجمالية والهيمنة، والشعر والرغبة في إخضاع الآخر وامتلاكه. وقد استعنا في هذا الفصل بمفهوم من ابتكار إدوارد سعيد وهو مفهوم «القراءة الطباقية»، وهي القراءة التي تدخل في حسابها عملية الهيمنة، وعملية مقاومة هذه الهيمنة في الوقت ذاته، أو التمثيل والتمثيل المضاد. وبهذا انتظمت القراءة في هذا الفصل في خطوتين متتاليتين: قراءة التمثيل العربي للأسود كخطوة أولى، ثم قراءة التمثيل المضاد الذي مارسه الأسود ضد التمثيل العربي كخطوة ثانية. وقد تركز اهتمامنا في القسم الأول على تمثيل الأسود في شعر ابن الرومي والمتنبي، وفي القسم الثاني على التمثيل المضاد الذي أسهم في تشكيله شعراء سودان لم تكن مقاومتهم للتمثيل الذي مورس عليهم موحدة ولا متساوية في درجة القوة والضعف. وقد تعرضنا إلى صوتين متعارضين في هذا التمثيل المضاد: صوت يمثل الأسود المستوعب داخل الثقافة العربية، وهو الأسود الخاضع لتمثيلات هذه الثقافة عنه، والساعي إلى الاندماج في هوية هذه الثقافة، ويمثل هذا النوع عنترة بن شداد، ونصيب بن رباح، وأبو دلامة. وأما الصوت الآخر فهو صوت الأسود الغاضب من تمثيلات الثقافة له، والمتمرد على عمليات التمثيل، والنافر من محاولات الاحتواء والاستيعاب والإخضاع التي يمارسها عليه التمثيل العربي. وبدلا من الرضوخ لهذا التمثيل، فإن هذا الأسود جابه تمثيله بتمثيل مضاد ينطوي على رغبة في الانتقام، ويتضمن إصرار هذا الأسود على تمثيل ذاته بذاته، وأبرز هؤلاء الشعراء هم سحيم عبد بني الحسحاس، والحيقطان، وسنيح بن رباح، وعكيم الحبشي.
عن الوطن القطرية
0 التعليقات:
إرسال تعليق