أجل ، فتح العـــرب إسبانيا
البـِنى الاجتماعية للأندلس
بـيـيـــر غــيــشـــــــــــار
ترجمة وتقديم : فخـري الوصـيف
هذه دراسة للمؤرخ الفرنسي الكبير بيير غيشار Pierre Guichard المتخصص في تاريخ إسبانيا العصور الوسطى ، نشرت لأول مرة بالفرنسية في أواخر عام 1974 ، ونشرت ترجمتها الإسبانية ضمن كتاب بعنوان "دراسات في التاريخ الوسيط" صدر عام 1987 . وكما يلاحظ مضى على تأليف الدراسة أكثر من ثلث قرن ، ولكنني أحسب أن "صلاحيتها" لا تزال قائمة حتى الآن خاصة في أيامنا هذه حيث عادت تطل علينا نعرات شعوبية ودعوات طائفية وإحن مذهبية ، كان المظنون أنها تقلصت ، وذلك في ظرف حالنا فيه بئر معطلة ، غارت مياهها واحتلت قاعها أفاع شتى من هنا وهناك .
وجاء عنوان دراسة الأستاذ غيشار ردا على كتاب لا يقل عنوانه إثارة ، وهو حسب الترجمة العربية للطبعة الانجليزية "العرب لم يغزوا الأندلس . رؤية تاريخية مختلفة" (لندن 1991) لمؤلفه الإسباني الكتلاني إغناثيو اُلاغويIgnacio Olagüe (1903-1974) ، الذي نشره بالكتلانية عام 1969 (وعاد الأستاذ جهاد فاضل مؤخرا إلى التعليق على الكتاب في شهرية "وجهات نظر" – عدد يونيو 2008) .
والكتاب المشار إليه يقوم على فرض مؤداه أن العرب لم يفتحوا إسبانيا لسبب بسيط هو أنه لا توجد أدلة نصية قاطعة على ذلك ، وأن الإسلام ظهر في شبه جزيرة إيبريا لأسباب راح يعددها ويشرحها المؤلف الكتلاني . وأطروحته التخيلية هذه لا تعنينا في هذا المقام . ومع ذلك ، لا يفوتنا أن نشير إلى أن أوهام اُلاغوي قد أثلجت ، وقد تطمئن ، قلوب بعض العرب والمسلمين الذين رأوا فيها راحة لهم من إزعاج تسببه لهم مقولة أن "السيف" انتزع جزءا عظيما من شبه جزيرة إيـبريـا ، وأقام عليه "الأندلس" . وكذلك لم تلق أقوال اُلاغوي ردا تفصيليا من الأستاذ غيشار لأنه ربطها بخطاب التقليديين الاسبان الذي يقلص إلى أقصى حد التأثير العربي الإسلامي في الأندلس ، وهذا أيضا جوهر أطروحة اُلاغوي ، أو قل النتيجة المنطقية لنفيه الفتح الإسلامي للأندلس ، فإذا لم يكن ثمة فتح ، فلا وجود مادي عربي إسلامي ، ولا تأثير ، ولا أثر باق . ولهذا اتجه المؤرخ الفرنسي مباشرة إلى عرض الخطاب التقليدي الإسباني بخصوص تاريخ وحضارة الأندلس ، ولعله توسع أكثر مما يجب في ذلك ، ثم نحا إلى تقديم آراء أميركو كاسترو صاحب أبرز المقولات المُعارضة للتقليديين ، وأخيرا يخلص إلى أن جوهر النقاش هو دراسة بنية تاريخ إسبانيا ، أو بالأحرى البنى الاجتماعية للأندلس ، وهي الدراسة التي طوّرها فيما بعد ونشرها في كتاب ضخم . ولكنه في هذه المترجمة ، العميقة والمكثفة ، ينتهي إلى أن البنى العربية الإسلامية مثـّلت القاعدة الاجتماعية القوية التي رسّخت الوجود العربي الإسلامي في الأندلس ، وأن ذلك العدد الضئيل من العرب والبربر الذي دخل الأندلس ، وهي مقولة تمثل أحد أعلى براهين الخطاب التقليدي ، لم يكن مجرد قطرة امتصتها الأرض الإيبرية . وهو قول من أقوال مماثلة أضحت سافرة ، بل وأحيانا مؤجَّجة ، في الخطاب القومي القطري في مشرق العالم العربي ومغربه .
***
في كتاب قد وجد صدى حقيقيا في فرنسا ، قدم مؤخرا إغناثيو اُلاغوي نظرية خيالية ملخـَّصَة في عنوان مثير يجب أخذه حرفيا : "العرب لم يغزوا أبدا إسبانيا" . هذا التلفيق من التاريخ التخيلي يمكن تلخيصه على النحو التالي :
إن فتح المسلمين لإسبانيا لا يكاد يعرف إلا من خلال النصوص العربية المتأخرة ، غير الموثوقة . فالمصادر القديمة ، خاصة اللاتينية ، في القرنين الثامن والتاسع لا تذكر شيئا عن وجود العرب في إسبانيا في مرحلة مبكرة جدا . ومن جهة أخرى ، فان اجتياحا بهذا القدر من الاستحالة تحقيقه ماديا إذا ُأخِذت في الاعتبار الطرق التقنية للمرحلة التاريخية . على العكس ، يبدو أن الظروف كلها تشير إلى أن شبه جزيرة إيبريا وجدت نفسها في العصور الوسطى الباكرة ، مثل باقي جهات حوض البحر المتوسط ، متأثرة بتحولات اجتماعية عميقة راجعة إلى طور من الجفاف المناخي . وتبلورت الصراعات الاجتماعية حول اتجاهين دينيين عدائيين : تيار التثليث التقليدي (الكاثوليكية) وحركة كانت تنادي بعقيدة وحدانية الإله ، ولم تكن الاتجاهات الغنوصية والآريوسية والإسلام سوى تجليات خاصة من هذه العقيدة . فعلى حين انتظم باقي الغرب في عقيدة التثليث ، انتصرت الوحدانية في إسبانيا في القرنين الثامن والتاسع بعد فترة من الاضطرابات السياسية والحروب الأهلية ، والتي من المفترض أن الأجيال اللاحقة لم تحتفظ إلا بذكرى مشوشة عنها . وهكذا كان المجال مهيئا لتبني العقيدة الإسلامية ، جالبة معها اللغة العربية ، حيث كانت تمتد حينئذ إلى ضفاف البحر المتوسط الجنوبية بفضل الاتصالات الدينية والتقافية والتجارية بين الغرب والشرق . وفقط لمّا توطن الإسلام بشكل قاطع في شبه جزيرة إيبريا ، وخاصة بعدما وقعت هزة سياسية دينية أخيرة في عالم جنوب الصحراء أدت إلى الاجتياج المرابطي لشبه الجزيرة ، ُنسبت إسبانيا الجنوبية بشكل جلي إلى منطقة الحضارة الإفريقية والشرقية ، وحدث أن ُنسجت الروايات لتشرح ماض مضطرب لا توجد عنه معلومات جيدة ، وُأخذ كأمر ثابت "فتح" قام به العرب في أوائل القرن الثامن .
توجد هنا سلسلة من المزاعم ، منها مجموعة غير مقبولة بصراحة (غياب المصادر المتعلقة بفتح المسلمين الشرقيين لإسبانيا) ، وأخرى أقل احتمالا (بقاء التيارات "الوحدانية" ، وخاصة الآريوسية ، فى شبه جزيرة إيبريا بعد تحوّل القوط الغربيين إلى الكاثوليكية) ، وأخيرا ثمة مجموعة أخرى تستحق التصفيق ، رغم أنها غير مبرهنة بعدُ بشكل كاف (العلاقة بين التحولات الاجتماعية والدينية والسياسية وطور من "الجفاف الحراري" في العصور الوسطى الباكرة في حوض البحر المتوسط) . هذه المزاعم تتصل فيما بينها بشكل اصطناعي لحد ما ناسجة أطروحة مُقدَّمَة أحيانا بمهارة ، ولكن أساسها أقل تماسكا واحتمالا من العرض التقليدي للأحداث التاريخية التي يسعى المؤلف لبرهنة بطلانها . مع ذلك ، ورغم أن الأفكار المطروحة لا تقاوم النقد ، فإن افتراضاتها تستحق الاهتمام .
ليس من السهل أن نفهم ، على وجه الخصوص ، تصميم المؤلف على نفي – ضد كل بديهية – حقيقة الفتح الإسلامي دون أن يأخذ في الحسبان نقاشا هاما في التدوين التأريخي الإسباني ، ودون أن يضع أطروحته المبالغة عقب تلك الأفكار ، لحسن الحظ أكثر معقولية ، التي يدافع عنها المؤرخون الذين يمكن أن نعزوهم إلى التيار "التقليدى" بالمعنى الذي أعطاه ت. مونرو لهذه الكلمة في كتابه عن الدراسات العربية في إسبانيا . بالفعل ، ثمة مدرسـة كاملـة من المتضلعين الإسبان تظهر اشمئزازا ، ليس من التسليم بأن الفتح قد وقع حقيقة ، ولكن حقا من أنه كنتيجة له حدث التعريب العميق وشرقنة شبه جزيرة ايبريا ، وهو ما قبلته المدونات القديمة ويأخذ به التقليد الشعبي . فهم يحاولون أن يضعوا الأعمال التاريخية كبديهية تكشف عن استمرارية بين إسبانيا قبل الإسلام وإسبانيا الإسلامية ، وأن هذا أكثر كثيرا من أولئك الآخرين الذين يشيرون إلى حدوث تغيير . ويعتبر فرض إغناثيو اُلاغوي أصيلا بمعنى أنه ينفي الغزو ، في حين أنه يوافق على الشرقنة . لكن يوجد هنا نفس الميل إلى التقليل من الفعل الأول من الفعلين – حتى أنه يعمل عى إخفائه كلية ، ليقدم تاريخا متواصلا تظهر فيه الحضارة الأندلسية كثمرة لتطور داخلي أكثر منها ظاهرة موضوعة من الخارج ، وذلك في إطار "قومي" حُذِفت منه بقدر الإمكان الفضيحة التي تمثلها "اغتصاب" إسبانيا من قِـبل محاربي طارق وموسى .
من هذا المنظور تبين الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادة ، التي كانت تمر بها مملكة القوط الغربيين في أواخر القرن السابع وأوائل الثامن ، أن عدة آلاف من الجنود العرب والبربر استطاعوا أن يهدموا بسهولة جهاز الدولة ، وأن يسيطروا على الإدارة السياسية للبلاد . بيد أن جوهر إسبانيا المكنون لم يصبه تغيير بسبب هذا التدخل الفظ . وقـَبـِل المجتمع الإسباني الإسلام دون أن يتخلى عن ذاته . ولم تلبث أن تأسبنت العناصر الوافدة في فترة الغزو وذابت في الكتلة الإسبانية القوطية . وانكشفت الحضارة الزاهرة ، في عصر الخلافة الأموية وفي أيام ممالك الطوائف في القرنين العاشر والحادي عشر ، عن إسلام إسباني بدرجة بالغة . هذه على وجه التقريب الرؤية الإجمالية المتفق عليها عامة بين كثير من المؤرخين والمستشرقين ، التي ظهرت منذ منتصف القرن التاسع عشر ، وتتضح في البحوث البارزة لـ سيمونيت وريبيرا ، وكذلك تقع في نطاقها مؤلفات منندث بيدال والعديد من الباحثين في تاريخ إسبانيا العصور الوسطى مثل أعمال هنري تيريس وهنري بيريس ، وأيضا كتابات مؤرخين آخرين من إسبانيا ومستشرقين فرنسيين . وقام مؤرخ العصور الوسطى الكبير ، الإسباني الأرجنتيني كلاوديو سانتشيث ألبورنوث ، بتقديم هذه الرؤية في صياغة أكثر منهجية وإحكاما ، ثم لخصها بنفسه في رسالته المقدمة إلى مؤتمر اسبوليتو في عام 1965 .
وفقا لبرهنة كل هؤلاء المؤلفين "التقليديين" ، ضمّ الفتح الإسلامـي لعالـم الإسلام ، بنوع من الصدفة التاريخية أو دون منطقية تاريخية ، بلدا كانت بناه العميقة "غربية" ومختلفة عن تلك التي كانت قائمة في المشرق أو في المغرب . وكان للضم نتائجه البديهية ممثلة في السيادة الدينية والثقافية ، ومع ذلك ، ظلت ظاهرتا الأسلمة والتعريب اللغوي ، وهما مكتسبتان ببطء وبشكل غير كامل ، سطحيتين ، ولم تؤثرا في نفس جوهر المجتمع الإسباني ؛ إذ بقى في أعماقه متطابقا مع ما كان قبل الفتح . واحتفظت الكتلة الأعظم من السكان الأصليين بلغتها وعاداتها ؛ فإلى جانب المولدين الذين تحولوا إلى الإسلام عاشت جماعات عديدة ونشيطة من المستعربين . هؤلاء وأولئك اتخذوا بشكل متنام اللغة العربية كلغة للثقافة ، ولكنهم احتفظوا بالرومانثية الإسبانية كلغة دارجة . وكانوا يشعرون بقوة الانتماء إلى جماعة عرقية وحياة أندلسية أكثر من كونهم جماعة دينية وسياسية إسلامية كان يقع مركز جاذبيتها في المشرق ، وبقوا عرقيا غرباء عنه . بالفعل ، قد استعربت جزئيا بعيد الفتح الطبقات الاجتماعية المسيطرة فحسب ، ولكن لا يجب أن نقلل على هذا النحو من أهمية الإسهام الخارجي . وكان عدد الفاتحين المستقرين في الأندلس محدودا ، لعله حوالي ثلاثيـن ألفـا من العرب ، وضعف هذا العدد من البربر . هؤلاء الأخيرون ، الذين لا يجب اعتبارهم كعامل من عوامل "الشرقنة" ، فبالكاد كانوا قد أسلموا ، ومن المحتمل أنهم كانوا سطحيي الاستعراب ، سرعان ما تأسبنوا . و زاد العرب عددهم في وقت طويل نسبيا ، فهم قدموا بلا نساء وتزوجوا بنساء محليات ، وعلى هذا النحو تحالفوا برباط المصاهرة مع الفصيل المهم من الأرستقراطية الإسبانية القوطية القائمة حينئذ ؛ واتخذوا نفس نمط حياتها في الضياع الكبيرة التي خصصت لهم . ومن جهة أخرى ، أدت السيطرة الإسلامية ، بضمها شبه جزيرة ايبريا لمدار الحضارة الإسلامية ، إلى إعادة تنشيط المراكز العمرانية القديمة ، ولكن ارتـاد القادمـون الجدد إطارا عمرانيا ذا تقليد روماني ، ومن ثم لم يكن محتملا تغييره إلا بقدر ضئيل . كما تعلم خلف هؤلاء الفاتحين دارجة السكان الأصليين ، وهكذا وجدوا أنفسهم سريعا متمازجين ومتأسبنين . وبعد أجيال قليلة ، وعن طريق الزيجات المختلطة ، لم يبق لهم بالكاد في العروق إلا بضع قطرات من الدم العربي ، وبالرغم من الأنساب العربية الشهيرة التي كانوا يحبون الافتخار بها ، فإنه عند التعرض لها يجب الحديث عن إسبانيين مسلمين أكثر من كونهم عرب إسبانيا .
لم يكن مستغربا ، من ثم ، أن أبدت إسبانيا الإسلامية سمات أصيلة تماما بالنسبة لباقي عالم الإسلام في العصور الوسطى . وبالاستناد على أعمال المؤلفين آنفي الذكر يضع سانتشيث ألبورنوث قائمة طويلة بالعناصر السابقة على الغزو التي بقيت في الحضارة الأندلسية ، والتي ظهرت جذورها "الغربية" في تنظيمات معينة ذات نمط ما قبل إقطاعي ، وفي عادات وطبائع الحياة الاجتماعية ، من ذلك تعاطي النبيذ والاستخدام الشائع للهجة الإسبانية في كل الطبقات الاجتماعية ووضع المرأة المتحرر للغاية . وكذلك الفن الأندلسي متشرب بتقاليد محلية ، كما أن كتـّاب العصر "الكلاسيكي" – عصر الخلافة وممالك الطوائف – هم قبل كل شيء ، من جهة صفاتهم النفسية ، مؤلفون إسبانيون ذووا نهج غربي ، وهم ، من جهة المزاج الإسباني ، أكثر قربا إلى أسلافهم الإسبانورومانيين أو إلى خلفهم من كتاب القرن الذهبي الإسباني ، منهم إلى معاصريهم في بغداد .
وبالنسبة لـ سيمونيت إن كل ما هو ذو قيمة قد أنتجته الحضارة الأندلسية إنما كان راجعا إلى العمق المحلي للسكـان . ويرى ريبيـرا ، بدوره ، إن السمـات "الشرقية" ، الإسلامية والعربية ، لهذه الحضارة ليست إلا نوعا من التلوين كان يخفي طبيعتها الغربية عميقة الغور . ووفقا لـ أسين ، إن تحت السطح الزائف والمصطنع للدين الجديد عادت مرة أخرى الميول الفطرية والاتجاهات والقدرات العرقية للشعب الإسباني . ويكتب سانتشيث ألبورنوث أن "ما هو عربي ثقافيا وحيويا كان ضئيلا خلال عقود وعقود في إسبانيا غربية ، عرقا وحياة وثقافة (...) . وخلال قرون عاش سكان شبه جزيرة إيبريا بقوة متجذرين في ماضيهم قبل الإسلامي" . فطبقا له ، إن التراث الذي تلقته الأندلس من إسبانيا المسيحية الإسبانوقوطية كثير للغاية ومتعدد الأشكال ، وامتد من اللغة والآداب والفن إلى الثقافة والحياة اليومية والعادات والتنظيمات وإلى الاقتصاد والعقليات والحياة الدينية ، حتى إلى ما هو أكثر خصوصية ممثلا في كبار أعلام المفكرين والكتاب والناشطين . بعد هذا يصل المرء إلى أن يتساءل إن كان فعلا قد قام العرب بفتح إسبانيا !
وبعد هذه الاقتباسات ، يتضح لماذا يمكن وصف هذا المفهوم بالتقليدية ، وهو ما صاغه هنري تيرس بشكل أكثر اختصارا على النحو التالي : "ديانة من الشرق استقرت وعاشت في بلد ذي بناء اجتماعي مماثل لجيرانه في أوروبا الغربية" . فإضفاء الامتياز على تقليد قومي ، غربي وإسباني ، مقارنة بالاسهامات الخارجية – الشرقية – يشتمل على جزء معتبر من التفسيرات العامة للعصر الوسيط الإسباني . إذ يُقلـَّل من شأن شكل القطيعة التي أحدثها الفتح الإسلامي ، وُتقدَّم حرب الاسترداد باعتبارها إعادة توحيد طبيعي لشعب قسم اصطناعيا بفعل صدف التاريخ . فعلى سبيل المثال ، هذه هي الرؤية التي يعرضها منندث بيدال : "الأندلس التي استقلت مبكرا عن المشرق ، كانت قد أسبنت إسلامها ، وكانت العناصر العرقية القليلة ، الآسيوية والأفريقية ، ممتصة تقريبا في العنصر المحلي ، بحيث أن الغالبية العظمى من المسلمين الإسبان كانوا ببساطة إيبرورومانيين أو قوطيين مُعاد تشكيلهم بفعل الثقافة الإسلامية ، وكانوا قادرين لحد كبير على التفاهم مع إخوانهم في الشمال الذين ظلوا على إيمانهم بالثقافة المسيحية . وعلى هذا النحو ، عندما بدأ الشمال تفوقه العسكرى كانت تميل الأندلس إلى الطاعة بسهولة ، وكانت خلوا – كما تبيّنَ – من الروح القومية والدينية" .
هذه الرؤية ليست مقبولة لحد كبير فحسب بين المؤرخين ، ولكن ثمة إجماع عليها . ومع ذلك ، ققد تجنب بعض المؤلفين ، مثل ليفي بروفنسال ، إصدار حكما بالغ القطع على مسألة كتلك تطلق العنان بسهولة شديدة للعواطف أبعد من جبال البيرنيو . وعلى العكس ، كثيرا ما يرفض المؤلفون الانجليز الافتراضات – القومية على ما يرون – للنظرية التقليدية . هكذا يحكم ميكلوس شتيرن بقسوة على زعم سانتشيث ألبورنوث القائل بوجود "شخصية" إسبانية في الأحداث التاريخية أو التظاهرات الأدبية لمسلمي إسبانيا . بيد أن كلهم لا يذهبون بعيدا جدّا مثل ب.إ.راسل الذي يتهم سانتشيث ألبورنوث بالعنصرية أو حتى بالنازية ؛ بل إن أحكاما أكثر اتزانا مثل آراء جيمس ت. مور أو مونتجمري وات تشير إلى تحفظ حقيقي بشأن تفسيرات عالم بوينوس أيريس الكبير في تاريخ العصور الوسطى .
يصغي هؤلاء المؤلفون الأخيرون برضاء جمّ إلى آراء مهاجر كبير آخر ، أميركو كاسترو ، وهو منْ ترجع إليه المفاهيم الأكثر صرامة المعارضة لآراء التقليديين . فطبقا لكاسترو ، إنه من المحال الحديث عن "إسبانيولية" قبل الفتح الإسلامي لسبب بسيط وهو أن لا أحد حينئذ كان عنده وعي بكونه إسبانيًا . و لا يوجد ، من جهة أخرى ، أي استمرارية بين إسبانيا القوطية وإسبانيا حرب الاسترداد . "كاسترو لا يعتقد بأنه توجد في الحقيقة نفسية خاصة لكل شعب ، وأنها تستمر عبر القرون . فروح الشعـب لا يمكن لها أن تنفصل عن الأحداث التي قد ساهمت في تشكيلها . ووفقا له ، إن البحث عن إسبانيا الخالدة في العالم الروماني أو حتى في مملكة القوط الغربيين مهمة لا طائل منها " (هـ. لابيري) . ما نسميه إسبانيا هو الحاصل من التركيب الروحى الذي وقع في العصر الوسيط ابتداء من حضور الديانات الثلاث : المسيحية واليهودية والإسلامية على أرض شبه جزيرة ايبريا . ويؤكد بوجه خاص على أهمية تأثير الإسلام ، وفي حين يحاول التقليديون أن يبرزوا الجذور اللاتينية والمسيحية والقشتالية لـ "الإسبانيولية" ، لا يتردد كاسترو في الحديث عن "نسيج سامي" لعقلية إسبانية تظهر خاصة في تعصبها الديني .
وينقد بصرامة على السواء القول بأن "الطابع الإسباني تقريبا نتاج جيولوجي" ، وهو ما يردده بعض مؤرخي ما قبل التاريخ الإسبان الذين يجدون إسبانيولية جوهرية في سكان شبه جزيرة ايبريا الأكثر قدما ، كما مؤرخي العصور الوسطى الذين يتحمسون لأسبنة الإسلام الأندلسي . وهذه حالة إسيـدرو دِ لاس كاخيغـاس ، الذي يعتبر ، في مؤلفه المخصص عن المستعربين والمدجنين ، أن مقاومة الأوَل للاندماج في العصر الإسلامي والآخرين في الفترة المسيحية تفصح عن "الاستمرار المدهش للعناد الإيبيري" تعبيرا عن الوحدة العرقيـة لمجموعتين اجتماعيتين كانتا "قبل كل شيء ، وعلى الأخص ، إسبانياتين ، وهؤلاء خـَلـَف أولئك" . وبالنسبة لكاسترو ، الاستمرار البيولوجي ليس له أي معنى ثقافي ، ومن غير المعقول الأخذ بإسهام "الدم الإسباني" لشرح عقلية المسلمين الأندلسيين . وكذلك فيما يتصل بالآراء الأخرى ، لا يوافق على أن تؤخذ في الاعتبار الملامح النفسية الفردية ، التي يشير إليها سانتشيث ألبورنوث ، لتحليل الحقيقة الجمعية لشعب ما . فالحياة الإنسانية ، حسبما يقول كاسترو ، شيء مختلف عن حياة الأرض وعلم الأعضاء وعلم النفس ، إذ أن "الإسباني لم يحز مطلقا كينونة شجرة مزروعة في الأرض ؛ وقبل أن يتفرد كإسباني ، كان يجب أن يشعر بوجوده كجماعة إسبانية" . بالفعل ، "يعتمد البُعد الجمعي لجماعة إنسانية على صيغة اجتماعية وليس على جوهر بيولوجي نفسي ، واضح ودائم" .
ويؤكد مؤرخ الأدب والعقليات المذكور على الإنجازات اللغوية والدينية حالما يشير إلى تخلـُّق هذه الصيغة الاجتماعية التي تشكل "البنية الحيوية" الإسبانية . وعلى هذا النحو يوجه اللوم إلى أنصار "الإسبانيولية الخالدة" الذين لم يأخذوا في الحسبان الفعل الاجتماعي والفردي للغة ، الممزوج بالفعل الذي للدين ، وينسون أن الظرف والحجم ، اللذان يشكلان الإنسان إلى فرد في قبيلة أو في منطقة جغرافية أو في أمة ، مستقلان بيولوجيا وسيكولوجيا عن الشخص . ويواصل كاسترو بخصوص إدعاء "إسبانيولية" الأندلس قائلا : "ويقال إن أولئك الناس ذوي الثقافة العربية والإسلامية كانوا إسبانا ، وأنه ما كانت حاضرة لديهم حياة العالم الإسلامي كبعد جمعي لحياتهم . ولا يؤخذ في الاعتبار كيف أن اللغة العربية تقولب وتنظم السلوك الداخلي للشخص (...) ، وأنه لما أصبحت المنطقة الجغرافية الأكثر تحضرا من مملكة القوط الغربيين السابقة مسلمة ومستعربة لغويا ، صارت الأندلس امتدادا للإمبراطورية الروحية واللغوية للإسلام" .
إذا كان كاسترو يشن هجوما بالغ الشدة على مواقف التقليديين ، فليس ليعالج نفس مشكلة شرقنة الأندلس ، ولكن ما يعنيه أن يتناولها كمسألة محسومة بهدف إثبات مفاهيمه الخاصة بشأن تخلـُّق العقلية الجمعية الخاصة بالشعب الإسباني . وبالفعل ، حسب رأيه ، لا يمكن أن تشرح خصوصيات الروح الإسبانية إلا عن طريق الاتصال الطويل بين سكان شمال إسبانيا وبين الأندلسيين المتشرقنين في الجنوب . ووفقا له ، ليست المسألة عمل قائمة بالاقتباسات الوفيرة التي أخذها المسيحيون من المسلمين في ميادين شتى – ميدان العادات بما فيها استخدام الحمامات العامة ، أو ممارسة تزيين الموتى ، أو عادة تغطية النساء لوجوههن ؛ وميدان اللغة بما تضمنه من دخول العديد من الألفاظ العربية في المعجم الإسباني ؛ وميدان التنظيمات الدينية مثل الرهبانية الحربية – بقدر ما هو الوعي بأنهم سواء انتصروا دينيا أو حربيا على الإسلام ، وسواء تلقوا تأثيره ، فإن "بنيته الحيوية" كلها هو ما كان ينقله مسيحيو الشمال من منافسيهم . هكذا كما كان في مواجهة الأندلسيين ، الذي كانوا يُعرّفون بشكل أساسي كمسلمين ، وَجَدَت تلك الشعوب المختلفة لغويا ونفسيا ، وهي شعوب أشتورياش ونـَبـَرّا وأراغون وقطلونيا ، وَجَدَت هذه الشعوب العنصر الأول لوعيها الجمعي في وحدتها الدينية . وعلى نفس المنوال ، فإن عملية التوسع المسيحي وخصوصيات عبادة سنتياغو – ومفهوم أنها شخصية مضادة لمحمد ، ومكانه المقدس نقيض الكعبة – ُتفسَّر بالحاجة لاعطاء مسيحيي الشمال في صراعهم ضد المسلمين أسلحة روحية ذات قيمة مطابقة لما يتوفـَّر عليه أولئك الأخيرون . ومن ثم كانت بنية العقلية الإسبانية نفسها هي التي تبنى ، في علاقة تقليد ومعارضة للإسلام في ذات الوقت . وهذه بنية "سامية" – يهودية إسلامية – وهي التي يجتهد كاسترو في إظهارها في الحياة الدينية واللغوية والأدبية الإسبانية .
وتحديدا وجد سانتشيث ألبورنوث أنه من الأفضل أن يركز هجومه على نظرية الشرقنة العميقة لإسبانيا الإسلامية ، لأن عليها – في رأيه – يقوم كل البناء المصمم من قبل منافسه الأكبر. فيأخذ على كاسترو ، وليس دون بعض الحق ، أنه لا يهتم بقدر كاف بالأسس التاريخية لموقفه . وينقد في المقام الأول مفهومه المحدود للغاية للتاريخ الذي يمنعه من قبول استمرار أخلاقي وعقلي قبل ظهور الشواهد الأدبية . وعلى كال حال ، لا يستنكف أن يرد عليه في نفس ميدانه ؛ بل حتى بوجه أساسي من خلال الأمثلة المأخوذة من التاريخ ، كما يحلل "النسيج الحيوي" للإسبان السابقين على الفتح الإسلامي ، لأن بالفعل هذه وسيلة متميزة لمقاربة الإنسان الإسباني في الماضي . وإذا كان قد سجل في لائحة زمرته من كبار الإسبان شخصيات عرفت بأعمالها بعيدا عن أي عمل أدبي مثل فيرياتو أو ابن حفصون ، فإنه قد ضمّنها بالأخص مؤلفين مثل سينيكا ومارثيال وابن حزم .
وطبقا له ، فإنهم كلهم ينتمون إلى نفس "العرق" الإسباني ، ويشتركون في نفس الشخصية الإسبانية . ولا شك أنه يتوخى ألا يتبنى المفهوم البيولوجي العرقي الفظّ ، وهو ما يعيبه كاسترو على التقليديين ، وهو نفسه (سانتشيث ألبورنوث) ينقد بعض مؤرخي عصر ما قبل التاريخ الإسبانيين في هذا الشأن . وهو بالنسبة لمصطلح "عرق" يفضل المصطلحات : "نسيج حيوي" ، و"شخصية" ، و"إرث مزاجي" . وهو لا يعني به معلومة عضوية فحسب ، تنتقل سليمة من جيل إلى جيل ، بل تكوين في الزمن يشارك فيه التاريخ أكثر من العوامل النفسية الجغرافية . وقد أضافت بالفعل الرومنة والغزو القوطى وحرب الاسترداد شيئا على إيعازات الأنثروبولجيا وإيحاءات الوسط الايبري وعلى الإرث التقافي ما قبل الروماني . ولكنه يؤكد على الاستمرار أكثر من التطور. وبالنسبة له ، فإن الإسهامات الجديدة كانت تندمج وتمتزج بشكل متواصل عن طريق بنية سابقة الوجود ، وفي آخر الأمر لا يمكن تجنب الانطباع باعتبار الانسان الإسباني ، فيما هو جوهرى ، يوجد منذ الأزمنة السحيقة .
ويقول إن لا أحد يشك في أن الإبداعات الروحية للإسبان الرومانيين لا يمكن تسجيلها في نطاق الإطار الضيق للثقافة الإغريقية اللاتينية . ومع ذلك يظل هؤلاء ينتسبون إلى جماعة تاريخية خاصة ذات "إرث مزاجي" معين ، ويعيدون تفسير الافتراضات الثقافية المشتركة لكل العالم الروماني تبعا لنسيجهم الحيوي الأصلي ، الذي هو نتاج إرثهم العرقي ومنظور فرديتهم الخاصة . "فقد فكر وكتب سينيكا ، ولوكانو ، ومارسيال ، وبرودنثيو ، وغيرهم ، طبقا للتقاليد الثقافية الإغريقية اللاتينية ، ولكن بالاتفاق مع وضعهم كإسبان ، وبانسجام مع نسيجهم النفسي المادي المتفرد" . وحدث نفس الشيء في العصر الإسلامي ؛ فمؤلف من سلالة السكان الأصليين مثل ابن حزم ، وإن كان مسلما متشددا ، وثقافيا مستعربا بالكامل ، فإنه ليس لهذا يكون إسبانيا أقل تأصلا ، وذلك بسبب مزاجه الذي تكشف لنا عنه مؤلفاته ، وهو المزاج الذي يعتقد سانتشيث ألبورنوث أنه يمكن تحديده بأكثر من عشرين صفة من بينها : الاعتداد بالنفس ، وقوة العاطفة ، والحدّة ، والميل إلى المحاجاة ، إلى غير ذلك . وليس لكون ابن حزم محاطا بإطار ثقافي عربي إسلامي يتوقف عن أن يمثل "واحدا من النماذج الأصلية للإنسان الإسباني" ، وأن يكون "حلقة مُسْلِمة في السلسلة التي تذهب من سينيكا إلى أونامونو" .
وكتلة الشواهد التي جمعّها سانتشيث ألبورنوث من نفس النوع تأييدا لنظريته ليست بأقل تأثيرا من الحِدّة – وهي أيضا صفة جدّ إسبانية – التي يدافع بها عن مواقفه بشأن هذه النقطة . ومن الصعوبة ألا يتأثر المرء بالصرامـة الشكليـة لبرهنته ، ومع ذلك ، يحدث أننا نجد أنفسنا هنا في ميدان لا يزال يشارك فيه ما هو ذاتي بشكل واسع ؛ ومع أننا لا نستطع أن نرفض جملة دون تردد برهانا بهذا الشكل المذكور ، فإن كل مثال مفحوص بشكل خاص لا يجعل توافقنا معه دائما حتميا . حتى أحيانا "دعوته الإسبانية" تحمله إلى اعتبارات قابلة للنقاش . وعلى هذا النحو لا يبدو معقولا اعتبار الأمير الحكم الأول أو الكاتب المغربي ابن خلدون إسبانيين . وأليس من المبالغة أن يوصف بـ "الإسبانية" الجيشان الديني والسياسي الذي أثار سكان ربض قرطبة على نفس الأمير الحكم الأول في سنة 818 ؟
ومهما كانت مهمة هذه المواقف الأخيرة المختبرة في فكر سانتشيث ألبورنوث ، فإن سمات أخرى من كتابه "إسبانيا لغز تاريخي" هي ما جعلت هنري لابيرى يقول إن نظرياته "أكثر ثراء في علم التاريخ" ، وعلى ما يبدو ، أكثر إرضاء بشكل قطعي للمؤرخ من نظريات معارضه كاسترو. ويأخذ عميد مؤرخي العصور الوسطى الإسبان على هذا الأخير ، كما قد رأينا ، البعد التاريخي الناقص في فكره . وهو نفسه ، سانتشيث ألبورنوث ، بقصد دحض الآراء المعروضة في "الحقيقة التاريخية لإسبانيا" يسعى إلى أن يأخذ في الحسبان الأحداث التاريخية في كل امتدادها الزمني وبكل تعقيدها . ويتضح هذا البعد التاريخي على الأخص في طريقتين : من جهة ، يصدِّر بدراسة في غاية الاستيعاب للمصادر ، ومن جهة أخرى ، يتناول كل تاريخ إسبانيا منذ أصوله ويجتهد في جعله مترابطا .
كما رأينا توا لم يهمل سانتشيث ألبورنوث تحليل التظاهرات الأدبية ودراسة العقليات ، وهو أيضا يعطى من الأهمية قدرا أكبر مما يعطيه مُعارضُه إلى الأحداث السياسية والعسكرية ، وإلى البيانات الخاصة بالتنظيمات والحياة الاجتماعية الاقتصادية ، وإلى الأعمال السكانية ، أي إلى العناصر المادية الصرفة المكوِّنة للإطار الذي فيه تحدث العقليات وتظهر الأفكار. ويؤسس هذا المتضلع في العصر الوسيط الإسباني برهنته على أحسن وأوسع معرفة لكل أنواع الوثائق – من حوليات إلى معلومات أثرية – التي حشدها يعتبره أحيانا أميركو كاسترو تزيُّدا لحد ما . وفي مداخلته بـ "سبوليتو" يعود سانتشيث ألبورنوث بشكل منهجي إلى دراسة المصادر العربية ليبيّن ضآلة عدد السكان العرب والبربر في إسبانيا . ويبرر على هذا النحو تأكيد هنري بيريس بأنه "لم يدخل من العنصر العربي في الكيمياء الاجتماعية لمسلمي إسبانيا حاشا جرعة متناهية الصغر" ، ويؤكد أن "جهل ذلك الحدث التاريخي ، أو تجاهله بشكل واع ، ما جعل مؤرخا مزيفا – يُقرأ أميركو كاسترو – يغامر بإعطاء نظريات خيالية عن تعريب أوشرقنة إسبانيا في غمضة عين ، أو بفعل سحر ، ويفترض أن أولئك "الإسبان" الذين عاشوا تحت سيادة الإسلام عرّبوا في ومضة إخوانهم المسيحيين بالشمال" . ثم يطلق العنان لتضلعه ليظهر حجم وتنوع تأثيرات ما قبل الإسلام في الأندلس كبرهان على عدم شرقنة المجتمع الايبيري .
ويقترح سانتشيث ألبورنوث ، من جهته ، منظورا أكثر اتساعا من الناحية الزمنية للمسار التاريخي لإسبانيا ، الذي يتأمله في مجموعه . وفيما يتصل بالمسألة الخاصة بشرقنة مجتمع شبه الجزيرة ، فإنه يعارض كاسترو ببرهنة تبدو بداية جدّ متماسكة . فحسبما يرى لايمكن الحديث عن مثل هذه الشرقنة لسببين ، من جهة أولى ، لأن نفس مجتمع الأندلس لم يتشرقن إلا قليلا جدا ، "كان التعريب الثقافي للإسبان الخاضعين للسيطرة الإسلاميـة بطيئـا للغاية ، ولم يتحقق تعريبـه الحيوي إلا متأخرا جدا ، أو حتى لم يتحقق أبدا" . ومن جهة ثانية ، لم تكن توجد اتصالات سلمية كافية بين المجتمع الإسلامي والمجتمع المسيحي في حرب الاسترداد كي تبرر التعايش الذي يظنه كاسترو. ونترك جانبا هذا التأكيد الأخير المتعلق بالعلاقات بين جهتي شبه الجزيرة ، وليس المرتبط بنفس طبيعة الحضارة الأندلسية ، ونفحص القول الجازم الأول الذي يطوره سانتشيث ألبورنوث على النحو التالي :
- "البناء الوظيفي" لسكان شبه الجزيرة كان مؤسسا بثبات عندما حدث الفتح الإسلامي .
- على العكس ، كان الإنجاز العربي الإسلامي لا يزال في دور التكوين وغير واضح المعالم .
- أن جزءا كبيرا من المجموعات البشرية ، وهي قليلة العدد ، التي استقرت في إسبانيا كانت حديثة العهد بالإسلام ، ولم تكن بعد مستعربة على الإطلاق .
- أن الإنجاز الإسباني ما قبل الاسلام بقي قائما بصلابة في إسبانيا الإسلامية .
هذه هي المواقف التي أردنا فحصها بعمق ، والتي تبدو لنا قادرة على إعطاء نقطة بداية جيدة للتفكير في البنى الاجتماعية لإسبانيا الإسلامية .
يكمن أصل خصوصية "الحقيقة التاريخية" لإسبانيا ، فيما يرى أميركو كاسترو، في تطورها الديني واللغوي في فترة العصـور الوسطى . بينما يرى التقليديون ، على العكس ، أن اللغة العربية والديانة الإسلامية ظلتا غريبتين عن هذه الحقيقة ولم تتوحدا في "النسيج الحيوي" لمسلمي الأندلس . وللإشارة إلى هذا المفهوم الأخير ُتلمَح محاولة لاستخدام مصطلح "البناء" ، وهو المصطلح الذي بات منذ عدة سنوات "الوسيط للغة اصطلاحية كاملة" . فيستخدمه كذلك سانتشيث ألبورنوث نفسه في العبارة التي انتهينا توا من ذكرها عندما تحدث عن "البناء الوظيفي" لسكان شبه الجزيرة الموجود وقت الفتح الإسلامي ، والذي ظل قائما بعده . وقد ذكرنا أيضا اقتباسا لهنري تيريس يرى فيه أن الإسلام استقر في بلد كان بناؤه غربيّا . وأراد ريبيرا أن يقول نفس الشيء عندما قارن تعريب المجتمع الإسلامي بتلوين بحيرة بالنيلة ، التي لا تغير من طبيعتها الكيميائية . وأخيرا تحدث أسين بنفس المعنى عن "الوجه المستعار والاصطناعي" للدين الجديد الذي غطى "نفسية عرقية" إسبانية العمق .
وتنزع كل هذه الأحكام ، ككل ما يردده التقليديون ، إلى خلع صفة "بنائية" على سمات بعينها دون أخرى من حضارة الأندلس . فالملامح الإسلامية العربية التي تظهر بوضوح تكوِّن نوعا من "طلاء" مفروضا اصطناعيا ، بينما العناصر المعتبرة "غربية" أو "إسبانية" ، والتي قلما تلمح في أغلب المرات ، واستلزمت قرنا من التضلع العلمي لإظهارها ، كانت تشكل جزءا من "النسيج الحيوي" ، ومن "البنية العميقة" . وفي الأخير ، تأتي العربية كظاهرة سطحية ، وهي اللغة التي قد حُرر بها ، منذ القرون الأولى لإسبانيا الإسلامية وخلال أكثر من خمسة قرون ، كل الإنتاج الأدبي الأندلسي ، وكانت مستخدمة باتساع كبير وباطراد أيضا كلغة عامية ، بينما كانت اللغة الرومانثية المحلية ، التي كان استخدامـها بعد الفتح الإسلامـي تدل عليه فقط شواهد قليلة ، وذات تفسيرات واهية في كثير من الأحيان ، ولم يأخذها أحد في الحسبان ولا حتى ريبيرا ، كانت تكون جزءا من الحقيقة العميقة للأندلسيين ؛ فهكذا يتحدث منندث بيدال "عن شعب كانت لغته الثقافية هي العربية ، ولكن الرومانثية كانت لغته العائلية ولكل ما هو جوهري" . وبالنسبة إلى هذا الشأن ، فإن موقف كاسترو ، الذي يوجه الانتباه إلى قيمة اللغة العربية كعامل لبناء العقليات ، يبدو معقولا أكثر ويدرك الحقيقة التاريخية بشكل أفضل .
بالفعل ، لا يُلمَح بشكل جدّ جيِّد لماذا أمـور بعينها من فترة ما قبل الفتح الإسلامي بقيت بشكل حتمي في إسبانيا الإسلاميـة لمجرد قـِدَمِها أو طابعها المحلي فحسب ، وارتفع قدرها إلى "أعمال بنائية" مكونة لـ "النسيج الحيوي" للأندلسيين وأدلة ثبوتية على "التجذر في تاريخهم قبل الإسلام" ، بينما الملامح العربية الإسلامية لا يجب أن تتعلق بأكثر من طلاء اصطناعي يخفي الحقائق العميقة عن أعين المؤرخين . تشكلت الحضارة الأندلسية انطلاقا من إرث مزدوج ، وطبيعي أن توجد بها ملامح قديمة وجديدة . ولكن ليس بديهيا أن تكون الملامح الأولى أعظم عمقا وأكثر أهمية من الثانية ، بل ولا حتى أكثر كشفا للطبيعة الحقيقية لهذه الحضارة . ومن جانب آخر ، يجب أن تؤسس بثبات السمة "الإسبانية" للأعمال التي يزعم استمرارها . فثمة أمور ذات سمة استمرارية حقا مدهشة ، مثل الأغنية والرقص الأندلوثيين المستمرين منذ العصر الروماني حتى أيامنا الحالية ، كما حسنا يشير مِنندِث بيدال . وأمور أخرى أقل حسما كما قد أشار بحق تش.اِ.دوفورك فيما يتصل تحديدا بالنظريات التي دافع عنها سانتشيث ألبورنوث : فبقاء عدد كبير من الجماعات المسيحية ولهجة محلية متفرعة من اللاتينية ، والحضور الروماني في العمارة أوالتقويم ، واستخدام النبيذ ، يوجد أيضا في إفريقية العصور الوسطى . كما أنه من منظور جغرافي أكثر اتساعا في العصر الإسلامي توجد في كل حوض البحر المتوسط عناصر من إرث قديم تشهد على وحدة حضارية ألمح إليها ش.غويتين .
ولا يعتقد أميركو كاسترو بداهة أنه يجب أن يخدع بشأن مثل هذه العناصر الاستمرارية . بالفعل حينما تفحص الاتصالات فيما بين الحضارات ، مثل المشكلة التي نحن بصددها الآن ، عن "إرث" منتقل من مرحلة إلى أخرى ، فليس ما يهم هو التأثيرات الوافدة أو المستقبلة في ظل نفوذ فلاني معين ؛ فلا يجب التفكير في مصطلحات عن "مادة" الحضارة ، ولكن في مصطلحات عن "الشكل" و"التهيؤ الحيوي" . "كل ذلك الذي يورثه الماضي يتلقى المعنى الذي يضفيه البناء الحاضر في حياة شعب من الشعوب ، والشكل المستخدم فيه الماضي واستعمالاته" . فالعناصر الموروثة من عصر سابق ليس لها من ثم معنى خارج إعادة التفسير التي فيها تتحول إلى بناء جديد . ولا يمكن أن يفهم هذا البناء بنفسه كحقيقة جمالية دون الأخذ في الحسبان الدينامية الحيوية للشعب المقصود . وحينما يعلل أميركو كاسترو مسلكه الخاص من خلال مثل هذه الاعتبارات ، فإنه ربما يتخفف قليلا من الجهاز الوثائقي الهائل الذي يعارضه به خصمه العتيد . ويمكن مشاركته التفكير في أن الشواهد العديدة التي جمعَّها سانتشيث ألبورنوث عن "إسبانيولية" الحضارة الأندلسية لا تشكل مجموعة متماسكة ، وتترك جانبا ملامح كثيرة لحد ما أكثر بديهية من ألا ترى جيدا لماذا لا يجب أن تساهم بشكل متساو في تحديد بناء هذه الحضارة . ولكن يمكن أيضا نقد اميركو كاسترو بأنه يقدم مفهوما فلسفيا أكثر منه تاريخيا عن صيرورة المجتمعات ، وبأنه – مهتما بشكل هذه المجتمعات أكثر من مادتها – يسعى إلى إدراك وظيفتها الحيوية أكثر من كونها عناصر منعزلة ، وبأنه أحيانا يأخذ الحوادث حسبما يلائمه ، حتى أنه يصل إلى إهمالها أو تشهويها حينما لا تتفق مع نظرياته لكي ينجز بناء أكثر تجريدية ، وأخيرا هو "أقل تغذية من العلم التاريخي" من معارضِه .
بشكل قاطع ، يدور كل النقاش حول البحث عن "بنية" تاريخ إسبانيا وعقلية الإنسان الإسباني . وهو مطروح بهذا المعنى في نفس الوقت بصورة عصرية لحد ما في موضوعه ، ولكن لعله طموح جدا بالنسبة إلى مقاصده ، بالقدر الذي فيه يحاول إدراك حقيقة كلية ، وإعطاء شرح أخير للصيرورة الإسبانية ونوعية الروح الإسبانية . وقد اكتسب مفهوم البنية نفسه ، منذ نشر أعمال سانتشيث ألبورنوث وأميركو كاسترو، أهمية ومعنى خصوصين في العلوم الإنسانية . ويُظهر التحليل البنيوي لمجتمع ما في ميادين محددة ، مجموعة أعمال معتبرة كأنساق (أو نماذج) . فيستخدم عالم الاجتماع أو عالِم العرقية نماذج تجريدية محققة من خلال ملاحظة المجتمعات القائمة فعليا ، والتي يمكن أن تفيد – فيما بعد – في تحليل مجتمعات أخرى أو لمقارنتها بها . وفي ميادين معينة يكون بناء الأنظمة بسيطا نسبيا ، ويظهر خصوبة شديدة ، خاصة في دراسة بنى علاقات القرابة والأنساق العائلية . إذ "تكون مجموعة علاقات الزواج نظاما محددا ومغلقا ، عناصره قليلة العدد ويمكن تحقيقها بسهولة . ولهذا يطبق التحليل البنيوي مباشرة ، ويكشف بنى كانت حتى حينئذ عصية على البحث" . وبإجراء تحليل "بنيوي" مماثل ، وهو أفضل من دراسة أحداث منعزلة تكون علاقاتها مع التركيبة الاجتماعية والثقافية صعبة الإحاطة للغاية ، يمكن توقع أن يسمح لنا ذلك بعقد تحليل "عميق" ، والدخول فعليا فيما يتصل بقطاع خاص يسميه سانتشيث ألبورنوث "النسيج الحيوي" لمجتمع ما . ومن جهة أخرى ، ومع أن التحليل – لا جدال – يعتمد على تصورية ، فإنه يستند على مجموعة أعمال يمكن ملاحظتها ، تمنعه من الابتعاد كثيرا عن "الحقيقة التاريخية" التي استقصاها كاسترو.
لهذا يكون من المرغوب فيه التوجه نحو "تاريخ إثنولوجي" مثلما حدد جاك لوغوف في مساهمتـه الأخيرة في "منوعات" على شرف فرناند بروديل . فحسبما يرى ، يمر نظام تاريخ ما في المقام الأول من خلال دراسة العائلة وبنى القرابة من جهة ، ومن خلال دراسة الوضع النسائي ، من جهة أخرى . ويرى ، فضلا عن ذلك ، أنه يجب إعطاء أهمية خاصة إلى المناطق والمراحل التاريخية التي شهدت حدوث اتصال بين مجتمعات وثقافات من تلك التي شغلت تقليديا التاريخ من جهة ، والإثنوغرافية من جهة أخرى . ونعتقد أن البحث عن البنى الاجتماعية لإسبانيا الإسلامية يمكن أن يسمح بتقدّم في هذا الاتجاه ، ولكنه سطحي جدا نظرا لفقر المصادر.
على كل حال ، يدخلنا سانتشيث ألبورنوث نفسه في هذه المسائل من خلال ملاحظاته عن حال المرأة في الأندلس . فيؤكد ، اعتمادا على نتائج بيريس ، أنه على عكس الشعوب الأخرى الإسلامية كان الأندلسيون في كل وقت "يمنحون المرأة اعتبارا واحتراما نابعا من أصل إسباني صريح" ، كانوا يتركون لها "حرية فريدة في الشارع من الصعب ربطها بالأعراف الإسلامية" . وإلى هذا "الاحترام للمرأة" ، وهو ما يمكن أن تشهد عليه بعض الأعمال الأدبية والنوادر المتصلة بآخر عصر الخلافة وعصر دول الطوائف ، يعزو مفهوم الحب "الخاضع" أو "المستسلم" ، الذي يظهر في أعمال عدة كتـّاب من "الكلاسيكية" الأندلسية ("وحنّ قلبي لِمَنْ يظلمه") على ما يكتب الشاعر ابن اللبانة من القرن الحادي عشر) . هذه الملامح الخاصة بالإسلام الإسباني لا يمكن أن تشير ، طبقا لسانتشيث ألبورنوث ، إلا إلى تقليد إسباني غربي يمنح المرأة مكانة رفيعة في المجتمع ، وهو تقليد تكشفه لنا منذ بواكير التاريخ التجسيدات النسائية المنحوتة أو المرسومة في الحضارة الإيبرية ، وبعض النصوص الإغريقة واللاتينية عن دور المرأة في المجتمعات القديمة بشبه جزيرة إيبريا ، والإشارات التي وصلت إلينا عن المداخلات النسائية في الحركة البريسليانية في أواخر القرن الرابع .
تبرهن لنا هذه العينة القليلة أننا بشكل غريب بلا وثائق لدراسة دور المرأة ومكانتها في البنى الاجتماعية الإسبانية قبل وصول المسلمين . وتكشف لنا نصوص استرابون ، وهي الأكثر دقة ، أن بين أهل كنتبريا – أي على ما يبدو في الطبقة التحتية العرقية الأقدم التي يسمح لنا التاريخ بالوصول إليها في شبه الجزيرة – كان يوجد نظام أمومي نمطي ، كانت فيه تنتقل القرابة والإرث عن طريق النسب النسوي ، وأن السلطة الذكورية كانت تمارس في العائلة عن طريق الخال (نظام الخؤولة) . ولا نعرف إذا كانت هذه الملامح تخص سائر المجتمعات البدائية لشبه جزيرة ايبريا ، ولكن يمكن فحسب المغامرة بالافتراض أن مكانة المرأة في المجتمعات الزراعية بشرق جزيرة إيبريا الأكثر تطورا لم تكن في أصلها مختلفة بعمق . وجاء إسهام عرقي سلتي أضيف إلى هذه الطبقة التحتية ، خاصة في وسط البلاد . ويعرف أنه على العكس من أولئك ، كان السلتيون ، مثل الرومان ، لديهم نظام قرابة أبوي . وعلى أية حال ، كان السلتيون يشكلون جزءا من مجموع الشعوب الهندوأوربية ، وهذه كانت قد عرفت مبدئيا نظاما أموميا بالشكل الذي ذكرناه توا ، كما تبين دراسات جديدة عن المرأة في المجتمعات السلتية أن دورها فيها كان مهما في العصر التاريخي . وفي الحضارة الرومانية ، التي سرعان ما لوحظ تأثيرها في شعوب كل الإمبراطورية ، بقيت التنظيمات القضائية متأثرة بقرابة العصبية في البنى الاجتماعية البدائية . فكانت المرأة تخضع لسلطة "رب العائلة" ونظامه الخاص وقانون العائلة فحسب ، وليس للقانون العام . لكن هذه القيود الصارمة تراخت كثيرا منذ أواخر عصر الجمهورية ، وفي العصر الذي ُنظِّم فيه مجموع الإمبراطورية بشكل حقيقي أخذت تتمتع المرأة بحرية فعلية وقانونية بشكل متصاعد ، وصارت لا تتزوج غصبا وتتصرف في أملاكها بحرية . وحتى قبل انتصار المسيحية أصبحت العلاقة الزوجية حقيقة اجتماعية مهمة في الحضارة الرومانية ، إلى درجة أن الفقهاء الكنسيين في العصور الوسطى استعادوا صياغة القانون الروماني لتعريف الزواج دون تغيير يذكر. وتقرّ المسيحية هذا الرسوخ للزواج كخلية أساسية للمجتمع ، وتحبذ التأكيد على الدور الاجتماعي للمرأة . ولم يكن لزاما أن تتناقض التأثيرات الجرمانية مع هذه الاتجاهات . ولا يجب الخلط حقيقة بين البنى الاجتماعية وقساوة العادات ، حيث عاد وضع المرأة المحدد أكثر تزعزعا في نطاق مرحلة فوضوية ومجتمع محارب . ومعلوم أن المجتمع الجرماني في العصر الوسيط الباكر كان منظما طبقا لنظام قرابة ثنائي ، وكانت فيه القرابة تمثل البنية ذات النمط العائلي الأكثر اتساعا ، وتشتمل في آن واحد الأقرباء من جهة الأب ومن جهة الأم (أقرباء العصائب والأرحام) . وقد بيّن ف.غانشوف أن الوضع التشريعي للمرأة كان قد تطور بشكل سريع للغاية في الممالك الجرمانية ، خاصة في الممالك الأكثر ارتباطا بالحضارة الرومانية . على هذا النحو ، كانت البنت في إسبانيا القوطية ، منذ القرن السادس ، تشارك في الميراث بنفس الحقوق التي كانت لإخوتها الذكور. كما يُلقي ضوءا على دور المرأة في التنظيمات العامة في المجتمع الفرنسي ، مبينا أن الملكة كانت مؤهلة افتراضيا لممارسـة الوصاية على العـرش . وفي "الملكية الإيطالية" ، مثل سابقا بين اللمبارديين والقوط الشرقيين ، واحتمالا تحت تأثير مبادئ القانون الروماني غير المتناقضة مع المفاهيم الجرمانية للقرابة ، كانت تبدو الملكة بوضوح حائزة على الشرعية الملكية . وثمة اتجاهات مناظرة يمكن أن تلاحظ في إسبانيا كما يوضح خوسيه اورلانديس في دراسة عن الملكة في ملكية القوط الغربيين .
لذلك يبدو جائزا ، فيما يتصل بهذه النقطة الخاصة ببنى القرابة ووضع المرأة ، قبول تأكيد سانتشيث ألبورنوث بأن شبه جزيرة ايبريا ساهمت بشكل كامل عشية الفتح الإسلامي في حضارة باكر العصر الوسيط الغربي ، بالرغم من بعض التأثيرات الشرقية والانفتاح الأكثر بروزا على التأثيرات المتوسطية مما كان عليه الحال في الأراضي الشمالية القاصية . ولا يلاحظ بهذا الشان أي انقطاع في المناطق التي لم تعرف ، أو لم تعانِ إلا وقتا قليلا ، البصمة الإسلامية العربية ، حتى حينما تطورت مجموعة الأشكال السياسية الاجتماعية فإنه حدث طبقا لنماذج مختلفة قليلا عن تلك التي عرفتها أوروبا الإقطاعية . ولا يظهر وضع المرأة والتنظيم العائلي مختلفين بشكل أساسي عما كانا عليه في غالة أو في ألمانيا في نفس الفترة ، كما ألمحت إلى ذلك دراسة أصبحت الآن قديمة لحد ما لسانتشيث ألبورنوث عن ليون ، وكما تبين بجلاء أعمال جديدة جدا عن شمال البرتغال وعن قطالونيا . فبالإضافة إلى التأكيد على بنى اجتماعية ناشئة من التطور الاقطاعي ابتداء من أواخر القرن العاشر وخلال القرن التالي ، فإنه من المقبول بشكل عام أن المجتمع الغربي المسيحي ، الذي لا يوجد أي سبب لتمييز إسبانيا الشمالية عنه من وجهة النظر هذه ، لا يعترف بقرابة أبعد من الزوجين سوى "بالقرابة" الثنائية دون امتداد زمنى أو جغرافي ، جاهلا بخطوط الأنساب الأبوية ، ومفتقرا إلى "وعي عشائري" . وباستخدام تخطيط ، نأمل ألا يظهر متعسفا ، نرجح لهذا المجتمع الغربي في باكر العصر الوسيط "المخطط" التالي ، الذي نعتقد أنه صالح للقرون من السابع إلى العاشر.
- إن القرابة ليست المبدأ الأساسي لتنظيم المجتمع . ويجب الإقرار بأنها ، رغم عدم نفي كل أهميتها ، لا تلعب بهذا الخصوص أكثر من دور عامل بين عوامل أخرى (إنعام ملكي ، شبكة ولاءات ، إقامة ، إلى غير ذلك) .
- إن نظام القرابة ثنائي ، وينتظم حول الزوجين ، الخلية الأساسية للأسرة .
- بقدر ما توجد – أي احتمالا ، خاصة في الطبقات الأرستقراطية – مجموعات القرابة المتسعة ، فإنها تكون من نوع "المصاهرة" ، وهذه أيضا ثنائية . وتتحدد بنية كهذه ، تشمل أقرباء العصائب والأرحام ، ابتداء من كل شخص وتلبي احتياجات محددة ووقتية (ثارات دموية ، ميراث) . وهي ، إن أمكن هكذا القول ، قائمة في الحاضر ، وليس لها أي امتـداد في الزمن ، إذ أن المصاهرة لابن لا تتفق مع المصاهرة التي للأب . وهي منظمة ابتداء من الأنا ، وليس اعتبارا من سلف مشترك ، ولذلك تكون هذه المصاهرات مجموعات تنشأ وتتفكك في كل جيل . وسواء بفعل سيولة المواريث أو بسبب عدم دقتها ، لا يمكن أن يكون لها دعامة اقتصادية دائمة ولا تماسك جغرافي .
- وبنفس الشكل الذي لا تكون فيه المرأة مُستبعدة من الميراث ، فإنها لا تكون كذلك مبدئيا مقصيّة من سيادة الأنشطة العامة . هكذا مثل أميرة في أسرة ملكية تكون حائزة على الشرعية الملكية ، كما تشارك الزوجة عادة في "شرف" زوجها .
- عند دَرْس بنى القرابة لا يمكن صرف النظر عن طرح مسألة الزواج الخارجي في نظام الزواج . وبهذا الخصوص يميز علمـاء الأنثروبولوجيـا بين نوعين من المجتمعات ، أولاهما المسمى بالبناء المعقد ، مثل المجتمع المعاصر ، الذي يكتفى فيه بوضع قواعد سلبية تمنع الزواج بين أقرباء من درجة قرابة دانية لحد ما بهدف تجنب غشيان المحارم ، وتترك مهمة تحقيق اختيار الزوج لعدة عوامل مختلفة ، خارجية على القرابة نفسها ، وتضع قواعد إيجابية لهذا الاختيار. ولدى هذه القواعد الأخيرة أبنية قرابة تسمى "أوليـّة" وتتفق في مجموعهـا مع النوع الثاني من المجتمعات ، وهي البدائية . وفي هذا النوع من المجتمعات يكون غشيان المحرم محظورا أيضا ، لكن بالإضافة إلى ذلك يكون الزواج الخارجي مقننا ، ففي النظام الأكثر نمطية يتزوج شخص ما عادة من ابنـة العـمّ المتقاطعة (بنت العمة أو بنت الخال) ، أي القريبة الأولى التي يستطيع الزواج بها دون خطر غشيان المحارم ، حيث أنها بعكس ابنة العم الموازية (بنت الخالة أو بنت العم) ، لا تنتمي إلى نفس الفرع العائلي ولا تعتبر قريبة له . وتعد "الأبنية الأولية" هذه واحدة من العناصـر الأساسيـة للتنظيم الاجتماعي البدائي ، ولديها كوظيفة تنظيمية ، على مستوى علاقات الزواج العملية ، التبادل الضروري فيما بين المجموعات الإنسانية في كل مناحي الحياة الاجتماعية (بالنسبة لـ كلاوديو ليفي-شتراوس) يمكن أن يعتبر الزواج الخارجي كـ "نموذج للتبادل" .
وقد طرح جيرمين تيليون في بحث مثير لـه الفكرة بأن المجتمعات في العالم المتوسطي القديم ربما كانت تتميز، على العكس ، بالميل إلى الزواج الداخلي في عشيرة أو سلالة . وتوجد هنا مشكلة إثنية تاريخية ذات أهمية خاصة ، ولكن المعلومات الدقيقة عن هذا الموضوع تظل محجوبة بشكل صارم . وإذ انتقلنا إلى مسألة وجود اتجاه أصيل إلى الزواج الداخلي في الوسط العربي البربري ، فنجد أنها ليست محلا للنقاش من أغلب الأنثربولوجيين على ما نعتقد . وعلى العكس ، تبدو قابلة للنقاش بدرجة كبيرة الفكرة القائلة بأن مجتمعات أوروبا الغربية ، بما فيها الواقعة على ضفافها المتوسطية ، كانت تمارس مثل هذا الزواج بشكل منتظم . ففيما يتصل بباكر العصر الوسيط ، من الممكن أن نجد ممارسات للزواج الداخلي في الوثائق ، ولكنها لا تشهد على وجود "نسق" زواج داخلي ، ولا حتى تكشف عن اتجاهات إلى الزواج الداخلي مرتبطة بالبنى الاجتماعية نفسها ، كما في العالم العربي البربري . كما لايمكن الحديث احتمالا عن "أبنية أولية" في المجتمعات قبل الإقطاعية للممالك الجرمانية ، بيد أن بمقدار ما يمكن أن تبقى آثار مثل تلك البنى ، التي تعدّ شواهد لحالة اجتماعية سابقة أقل تطورا ، يمكن التساؤل إذا لم تكن بالأحرى تكشف ، على العكس ، عن وجود تقليد الزواج الخارجي . إذ جددت القواعد الصارمة المفروضة بهذا الشأن من قِبل الكنيسة بشكل جزئي محرمات أكثر قدما ، جرمانية أو رومانية . ومن جهة أخرى ، لا يمكن نفي أهمية تحالفات المصاهرة والعائلة الأمومية في المجتمعات قبل الإقطاعية والإقطاعية ، وهاتان الظاهرتان ُتشرح أفضل بنظرية تقليد الزواج الخارجي . ويمكن التساؤل أيضا ، بخصوص هذه التحالفات ، إن كان الوضع النسبي للعائلة التي تستقبل بنتا وتلك التي تتنازل عن أخرى لا يتفق تماما مع ما يلاحظ في المجتمعات ذات الزواج الخارجي من أن العاطين النساء كانوا بوجه عام أعلى من المستقبلين .
لا يبدو أنه من المستحيل ، رغم فقر الوثائق ، العثور على بصمة البنى الاجتماعية التي اقترح مخططها ، في مجتمع السكان الأصليين في الجزء الإسباني الخاضع للسيادة الإسلامية ، ونقصد بهم المستعربين (الذين ظلوا مسيحيين) أو المولدين (الذين تحولوا إلى الإسلام) . فثمة روايات شبه أسطورية يبدو أنها صنعت في محيط السكان الأصليين في أراغون (الثغر الأعلى) في فترة قديمة لحد ما ، وقد احتفظ بها نص نشر حديثا لجغرافي أندلسي من القرن الحادي عشر ، وهو العذري ؛ وتلمح هذه الروايات إلى أهمية قرابة الأرحام في ذلك المجتمع في حوالي أواخر القرن الثامن . كما أن نصا عن أنساب نبَرّا في القرن الحادي عشر ، في نفس المؤلَّف ، ونص الأنساب الذي وضعه ابن حزم في ذات الفترة يعرفاننا بتحالفات المصاهرة المعقودة في الفترة الواقعة بين القرنين الثامن والعاشر بين العائلة القوية المولدة بني قسي ، التي كانت تسيطر سياسيا على وادي نهر الابرو ، وعائلات أخرى مسلمة من السكان الأصليين . كما أن في المناطق الجنوبية ، فيما نعرفه بحركة الشهداء المسيحيين في قرطبة في منتصف القرن التاسع ، وقبل كل شيء عدد النساء الذي كان بين الشهداء أنفسهم ، تظهر أهمية النساء بين أوساط المستعربين في عاصمة الإمارة الأموية . وفي النصف الثاني من نفس القرن نجد أخيرا معلومات وافرة نسبيا عن العناصر النسائية في عائلة الثائر المولدي ابن حفصون ، الذي يبدو أنه استخدم بشكل منتظم زيجات أبنائه وبناته لتعزيز تحالفاته السياسية مع سادة أندلسيين آخرين .
تبدو هذه المعلومات المتفرقة فقرا صارخا لمؤرخ بأوروبا الغربية . وهي تكتسب كل قيمتها فحسب إذا اعتبرت أنها تمثل كل ما تحت أيدينا لنكون فكرة عن البنى الاجتماعية وعن دور المرأة في وسط السكان الأصليين بالأندلس ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، خاصة أنه لا فائدة من البحث عن معادلها في كتلة النصوص الضخمة التي تعرفنا بعشرات سلالات الأنساب ومئات الشخصيات من أصل عربي أو بربري .
بالفعل إن إدخال مفهـوم البنـاء الاجتماعي حسب التأكيـد الثاني لسانتشيث ألبورنوث ، الذي طبقا له "كان الإنجاز العربي الإسلامي مائعا وغير دقيق في مرحلة فتح الأندلس" يبين بوجه خاص إمكانية الإجابة . بيد أنه يجب التفرقة أكثر مما يفعل سانتشيث ألبورنوث وأميركو كاسترو بين إنجازات إسلامية وأخرى عربية بكل ما في ذلك من معنى . حتى إذا سلمنا بأن سانتشيث ألبورنوث عنده حق فيما يتصل بالأعمال الأولى – وهذا أمر يستحق المناقشة – فإنه ليس ممكنا عمل تجريد لتأثير الإنجازات الثانية ، على وجه الخصوص بداهة في الفترة الأولى من تاريخ الأندلس . عن هذه الإنجازات ، بالفعل كان السكان الأصليون ، كجماعة اجتماعية ، غائبين تماما . فقد كان عبارة عن تاريخ عربي بربري بشكل صرف ، تسوده تقريبا الاعتبارات القبلية فحسب . هذا الغياب لردود أفعال السكان الأصليين خلال ثلاثة أجيال ، وكذلك غياب ثقلهم في التطور السياسي ، من عمل اجتماعي من أصل شرقي وشمال أفريقي ممثلا في الحقائق العشائرية والقبلية يستأهل أن يكون مأخوذا في الاعتبار عند تقييم "صدمة" الفتح في المجتمع الإسباني القوطي .
يفكر المرء في الحال في بعض الأعمال التي يمكن أنها أطالت هذه الأهمية للقبائل كعناصر مكونة للمجتمع الأندلسي ؛ على سبيل المثال ، الاحتفاظ بتنظيم قبلي في الجيش حتى أواخر القرن العاشر ، أو الانتشار الواسع للعرقية القبلية العربية في الأسماء الأندلسية حتى أواخر أيام إسبانيا الإسلامية . مع ذلك ، هذه العناصر الباقية لوحدها لا تسمح باعتبار المجتمع الأندلسي مجتمعا قبليا بنفس المعنى الذي كان عليه المجتمع المغربي ، ويكون مرجحا أن القبائل من حيث كونها كذلك تختفي تماما من الحياة السياسية لإسبانيا الإسلامية على مدى القرن التاسع . ومع ذلك ، فإن أهمية هذه القبائل في أصول تاريخها ، مثل تلك الامتدادات للتنظيم القبلي القديم التي بدت بشكل مباشر في المراحل اللاحقة ، يحمل على التساؤل عما إذا لم تكن تلك البنى القبلية القائمة في مرحلة الفتح ، وهي كانت الشكل الأساسي للتنظيم الاجتماعي للفاتحين العرب والبربر ، تلعب دورا ملحوظا في تكوين الحضارة الأندلسية .
تبدو المسألة بغير ذي بال إذا ُقبلت مقدما النظرية التقليدية التي ترى أن العرب القادمين إلى إسبانيا كانوا قليلي العدد ، وأنه باستمرار اندماجهم على مدار عدة أجيال في مجتمع السكان الأصليين ، تلاشوا بسرعة كبيرة من حيث كونهم جماعة عرقية متفردة . مع ذلك ، فإن هذا الاندماج غير صحيح كما يشهد على ذلك في المقام الأول التطور السياسي الاجتماعي للأندلس في القرن التاسع . فرغم أن الأندلس كانت تمر بحركة استعراب ثقافية سريعة ، فقد كان بالفعل يسود سكانها الأصليين يقظة استقلالية أفرزت تأكيداتها الاحتجاجية توترات مع العرب والبربر كانت في كل مرة أكثر حدة . وانتهت هذه التوترات في الربع الأخير من القرن المذكور بإثارة فترة من الفوضى "الفتنة" التي كانت على وشك أن تجرف الإمارة الأموية ، ولم يمكن تجاوزها إلا منذ العقد الثاني من القرن العاشر بعد وصول الأمير عبد الرحمن الثالث إلى السلطة . إذن كان لا يزال المجتمع الأندلسي ، بعد قرنين من الفتح ، مشكلا من مجموعات متفردة عرقيا ومتشاحنة بعنف ، ويكون من الصعب القبول دون تحفظ بالمخطط المقترح عادة عن قيام كتلة السكان الأصليين بـ"ادماج" سريع لمجموعات الفاتحين . وبالأحرى تكون آلية حفظ الفاتحين المستمر لوضعهم هو ما يجب محاولة بنائها . وبهذا الشأن توجد نقتطان يجب أولا أخذهما في الاعتبار ، وهما المشاكل المتعلقة بعدد العرب والبربر ، والمرتبطة ببناهم الاجتماعية .
سنقصي بسرعة المسألة الأولى من هاتين المسألتين ، ليس لأنها تبدو لنا في ذاتها عديمة الأهمية ، لكن لأنه تقريبا غير ممكن الوصول في هذا الموضوع إلى نتائج قوية . فانطلاقا من الأعداد التي تمدنا بها الحوليات العربية عن الجيوش التي دخلت إسبانيا في النصف الأول من القرن الثامن يُقدّر سانتشيث ألبورنوث أن حوالي ثلاثين ألف عربي على الأكثر استقروا بشكل نهائي في الولاية الجديدة من الإمبراطورية الإسلامية . ولكن الفحص الدقيق لكل المصادر التي في متناولنا يسمح ، على ما نعتقد ، باعتبار أن الأكثر احتمالا أنه عدد أعلى بشكل واضح (لعله نحو خمسين ألفا) . ولكن أيا من التقديرين غير ذي شأن ، آخذين في الاعتبار ضآلة معلوماتنا عن هذه الفترة والجهل الذي نجد أنفسنا فيه حول حركات العودة إلى شمال إفريقيا أو إلى المشرق ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، بشأن الاستقرار في إسبانيا لجماعات أو أفراد قدموا بمبادرة شخصية (لا ننسى أن إسبانيا كونها منطقة حدودية استطاعت أن تجذب عددا مهما من المتطوعين للجهاد) . ويلاحظ أنه حتى مع قبول نظرية سانتشيث ألبورنوث : "العدد الضئيل" ، فإن عدد العرب المستقرين في شبه جزيرة ايبريا كان أعلى من عدد القوط الغربيين ، الذين من المحتمل أن عددهم لم يكن يتجاوز أكثر من عشرين ألف محاربا في مساحة تبلغ تقريبا ضعف التي بقيت فيما بعد في أيدى المسلمين في أواخر القرن الثامن .
سيجد القول الأخير معارضة بأن القوط الغربيين كانوا يشكلون شعبا من 80 ألف نسمة على وجه الإجمال ، بينما العرب الذين قدموا وحدهم ، دون عوائلهم ، قد امتزجوا مع السكان الأصليين بالاقتران بنساء إسبانيات . ولكن هنا بالضبط حيث يتعثر رأينا مع واحدة من المسلمات الأكثر رسوخا والأقل برهنة في النظريات التقليدية . إذ لا يوجد أي مصدر على حد علمنا يؤكد مثل هذا التثبت ، وبالعكس يكون ممكنا بالأحرى العثور في النصوص الأكثر قدما على بعض الدلائل في اتجاه مخالف . مثل هذه الإشارة لـ بابلو دياكونو ، الذي كتب – بعد أكثر قليلا من نصف قرن فقط من الاجتياحات العربية البربرية في جنوب غالة – أن هؤلاء كانوا قد اخترقوا هذا البلد "مع نسائهـم وأولادهم بحيث يمكنهم الاستيطـان هنالك بصفة نهائية" . ومن جهة أخرى ، كل ما نعرفه عن عقلية وعادات العرب في فترة الفتح الإسلامي يمنعنا من أن نقبل التصور ااذي كثيرا ما يقدم عن أن فتح شبه الجزيرة قد قام به عزّاب في غاية الحرص على عقد زيجات غنية بجميلات وريثات من السكان الأصليين وعلى الانخراط في مجتمع راق ثقافيا . وبالعكس ، يكون من الممكن التفكير بأن العرب الذين استقروا في إسبانيا كانوا أقساما من قبائل ومن عشائر ؛ ولهذا كانوا يشكلون بالفعل مجتمعا مكونا ، حيث أن الأوضاع والممارسات السائدة فيه (تعدد الزوجات ، والاستئثار بالنساء على حساب المجتمع المهزوم ، وإمكانية إدماج فردي وجماعي لعناصر من هذا المجتمع من خلال تأسيس علاقات ولاء أو تحالف) كان يجب ، من جهة أخرى ، أن تسهل من امتداده السكاني السريع وتعزيزه على حساب مجتمع السكان الأصليين .
كل ما قيل إلى هنا يطبق بالمثل على البربر الذين على ما هو متفق عليه لا بد أنهم كانوا بشكل ملموس أكثر عددا من العرب ، ولكن ثمة محاولة للتقليل من دورهم في "شرقنة" إسبانيا الإسلامية بالقول إنهم لم يكونوا بعدُ مستعربين وبالكاد اعتنقوا الإسلام . هذه المزاعم أيضا قابلة جدا للنقاش . فالشواهد على "البربرة" اللغوية في إسبانيا نادرة ، حتى لو كان بديهيا أنه في النطاق القبلى الخاص بالبربر حافظت المجموعات البربرية المستقرة في شبه الجزيرة خلال وقت طويل على الوعي بأصولها ، وتميزت عرقيا عن العرب كما عن السكان الأصليين . كما أنه من البديهي أن تطورهم تحقق في اتجاه التعريب وليس نحو "أسبنة" خرافية . وتكمن المشكلة في معرفة إن كان تعريبهم اللغوي مصاحبا لتطور مماثل في العادات وأشكال الحياة . وهذا يبدو ممكنا بالقدر الذي لم يكن من المتوقع أن يكون شكل التنظيم الاجتماعي للبربر ، وهو كذلك كان يرقد فوق نظام قبلي ، بعيدا جدا عن مثيله العربي . لذلك نعتقد أنه بالفعل يمكن اعتبار مجموع الفاتحين كجماعة عرقية ، وعدديا أكثر أهمية مما يسلم به عادة ، وأن تماسكها لم يكن راقدا فقط على عوامل دينية وثقافية ، ولكن أيضا على بنى اجتماعية متطابقة .
ليس مستحيلا لنا أن نكوِّن فكرة عن هذه البنى الاجتماعية رغم فقر المصادر عن المجتمع في الأزمنة الأولى من تاريخ الأندلس ، وهنا فعلا تأتي الدراسات العرقية والاجتماعية لنجدة التاريخ . بالنسبة لما يتعلق بالعرب ، يوجد اتفاق على اعتبار التنظيم القبلى العصائبي والزواج الخارجي للبدو الحاليين موروثا مباشرة عن المتنقلة في شبه جزيرة العرب في فترة الفتوحات الإسلامية . ولذلك ، من الممكن اللجوء إلى الأدبيات العرقية لمعرفة هذا الشأن . ومن جهة أخرى ، من المتيقن أنه بالرغم من أن أشكال الحياة ليست هي نفسها ، فإن المبادئ التي تحكم تنظيم السكان القارين ، قرويين ، بل وحتى أحيانا حضريين ، في العالم العربي وفي جزء كبير من العالم المتعرب وحديث الإسلام ، لا تكون بصفة أساسية مختلفة عما تسمح باستنتاجه دراسة البنى الاجتماعية للمتنقلة .
بالنسبة للبربر الذين عبروا إلى إسبانيا ، فإن قواعد تنظيمهم الاجتماعي يطرح مشكلة أكثر دقة ؛ ومع ذلك ، نعتقد أنها يمكن أن تحل في نفس الاتجاه . حقيقة توجد في النطاق البربري تجمعات سكانية منعزلة تختلف بنيتها الاجتماعية عن الخاصة بالعرب وبالجزء الأعظم من البربر المتعربين . وهي بصفة أساسية قبائل صحراوية معينة مثل الطوارق ، والتجمعات السكانية الجبلية بالأطلس المغربي . الأوَل لديهم نسق القرابة عن طريق الأم ، والآخرون يعرفون نسقا عصائبيا وزواجا خارجيا بشكل واضح أقل مما هو خاص بالعرب . ويكون من الصعوبة معرفة إن كان ذلك عبارة عن استثناءات كانت دائما في العصر التاريخي ، أو ملامح كانت أكثر انتشارا في باكر العصور الوسطى وقد امّحت في أماكن أخرى بفعل التعريب . يمكن ملاحظة في تدعيم النظرية الأولى أنها ليست فقط تجمعات بربرية مستعربة ، مثل تلك التي في سهول شمال المغرب ، التي تقدّم بناء اجتماعيا مناظرا للبناء الذي لدى العرب ، بل أيضا مجموعات كثيفة ظلت متمسكة باللغة والعادات البربرية مثل القبايل . وفي الغرب الإسلامي في القرن الثاني عشر يمكن التحقق من أن مجموعة بربرية ذات نسق قرابة أمومي مثل لمتونة ، التي شكلت الأساس القبلي للحركة المرابطية ، قد احتفظت بعدة ملامح من تنظيمهم البدائي (خاصة فيما يمس العادات وأسماء الأشخاص) ، وذلك بعد قرن من اعتناق الإسلام وعقود عديدة من الاندماج في المجتمع المتعرب في شمال المغرب والأندلس . وبالعكس ، لا توجد في عصر الإمارة الأموية أية إشارة من هذا النوع يتيح لنا الظن أن البربر الواصلين إلى إسبانيا في مرحلة الفتح كان لديهم في أصولهم بنى اجتماعية مختلفة عما كان لدى العرب .
سنحاول إذن ، كما فعلنا بالنسبة للمجتمع الغربي ، أن نعمل مخططا للبنى الخاصة بالمجموعات العرقية الشرقية والشمال أفريقية المستقرة في إسبانيا في القرن الثامن ، وهي بنى يبدو لنا ممكنا معارضتها تقريبا نقطة نقطة بشكل التنظيم الغربي المحدد أعلاه . ولهذا السبب ، وللتسهيل ، سنصفها بـ "شرقية" حتى لو كنا واعين بما يوجد من تعسف في هذه التسمية .
- إن المجتمع العربي البدائي ذو نمط "متشظِ" ، دون تبلور لفكرة الدولة أو الملكية ، ويتحقق فيه التوازن بواسطة حركة الخصومة بين مجموعات القرابة . وكانت تلعب القرابة ، كما في المجتمعات البدائية ، دورا أساسيا في التركيب الاجتماعي ، ومع ذلك لم تنجح القواعد الإسلامية ، ذات نزعة جَدّ مختلفة ، دائما في القضاء عليها ولا حتى في تخفيفها .
- من جهة أخرى ، يكون المبدأ الذي يحكم نظام القرابة عصائبيا صارما . ومبدئيا كانت المجموعة الوحيدة الموجودة في مختلف مستويات العائلة الواسعة ، العشيرة والقبيلة ، هي مجموعة القرابات الأبوية المنحدرة من ذات الجذع الذكوري ، مستبعدا منها ذوو الأرحام والأصهار . ومن الممكن أن تكون هذه القرابة صورية ، ولكن ذلك لا يقلل شيئا من قوة إحساس التماسك الراجع إلى الاعتقاد برابطة دموية . ومن وجهة نظر ثقافية ، يُعدّ الاعتقاد أكثر أهمية من حقيقة الأعمال . المهم أنه في نطاقات واسعة من العالم العربي البربري يكون من الصعوبة فهم أن مجموعة اجتماعية يمكن أن تكون مؤسسة على أواصر أخرى غير علاقات القرابة العصبية . وفي هكذا نظام ، الأسرة النووية الزوجية – حتى دون الأخذ في الحسبان تعدد الزوجات – لا يكاد يكون لها وجود . وتتمثل الحقائق الأساسية في النسب الأبوي ، وهو ذو استقرار كبير لحد ما في الزمن ، وفي الجماعة العصابية ، التي كثيرا ما تشكل حتى بين المستقرين وحدة استيطان مرتبطة بحي أو إقليم خاص .
- وتتمثل السمة الثالثة للمجتمع "الشرقي" في الميل القوي إلى الزواج الداخلي من نفس النسب ، وهو يبدو لحد ما نتيجة للعصبية ، ويقي من التشظي . وبشكل مفضّل يتزوج الرجل بالمرأة الأكثر قرابة بقدر الإمكان ، أي بابنة العم . وفي التقليد العربي ، كما تقريبا في كل المجتمعات البربرية ، الزواج المفضل يكون ببنت العم ، ولكنه يعتبر زنا محارم ومستهجنا شكليا في غالبية المجتمعات البدائية . وفي هذا النمط السائد حيث يمكن اعتبار الاحتفاظ بالنساء بواسطة المجموعة الأبوية ممارسة "طبيعية" للغاية ، تبدأ "الثقافة" بقواعد الزواج الخارجي التي تفرض تبادل النساء بين المجموعات ، وهنا يمكن القول مع جاك بيرك أن بين العرب "ما هو اجتماعي يضطلع بدور ما هو طبيعى إلى درجة الالتباس به" .
- يتوقف هذا الميل للزواج الداخلي ، في التحليل الأخير ، على مفهوم خاص للعِرض في المجموعة الأبوية . فتقع النساء في مركز دائرة الحَرَم (ما هو مقدس محرّم على الغربـاء) ؛ وكل هجوم على هذا العرض ، حتى التنازل عنه بالزواج ، يعتبر عارا . بالعكس ، كيفما تجد المجموعات نفسها في حالة دائمة من التنافس ، يكن مشرفا سبي نساء مجموعة أخرى ، أو الحصول عليهن بالزواج . وفي العقلية التقليدية ، وبخلاف ما قد اعتقدنا أنه قد أمكن التثبث منه في الغرب ، بالأحرى ، تشرُف العائلة التي تستقبل امرأة أكثر من العائلة التي تتنازل عنها . وبمقتضى هذا المفهوم ، تكون النساء مبعدات عادة عن كل حياة عامة . وهن "متبادلات" بأقل قدر ممكن ، ولا "يتحركن" في المجتمع بنفس الطريقة التي في الغرب ، وبالرغم من أن التبادل الزوجي يمارس هناك بشكل عادي ، فإن ليس له نفس الصدى الأخلاقي والاجتماعي . وفي الوسـط الريفـي التقليدي حيث الأفق النسائي عادة لا يتجاوز حدود الجماعة الأبوية ، تكون الضغوط التي تثقل وضع المرأة خفيفة لحد ما . ولكن هذه الضغوط تكون أكثر ثقلا في الوسط الحضري حيث أن أخطار الاختلاط تحتم ممارسات صارمة كالحبس واستخدام الحجاب . وفي ظل سيادة البنى الاجتماعية ووضع المرأة ، كثيرا ما أثر التقليد بالفعل على نفس روح الإسلام الذي يتطلع إلى "إبعاد الناس عن الصلات الدموية ليقدم لهم علاقات جديدة ليست بيولوجية" (ج. دوفيغنو) . وقد تغلبت العادات بشكل متكرر على قواعد تشريعية – دينية كانت تهدد بكسر الإطار التقليدي ، وبقي هذا النظام قائما بشكل واسع حتى العصر الحديث .
لا نزعم هنا القول باستحالة العثور على مقابل لهذه المفاهيم والسلوكيات في الوسط الغربي ، خاصة في قطاعاته البحر متوسطية . وعلى أي حال ، يبدو أن البناء في جملته هنا مختلف جدا . ففيما يتصل ، مثلا ، بمفهوم الشرف ، فهو يقدم منذ أصله محتوى مختلفا ، ويبدو مرتبطا بشكل مبكر بالبناء الملكي للمجتمع . فقد أوضح اِ.بينفينيستي أن الكلمات التي تعيّن مفهوم الشرف في اليونان القديمة تشير اشتقاقيا إلى سلطة مادية مرتبطة بالوضع الملكي . وفي اللاتينية honos تكون في نفس الوقت شهادة تقدير للعمل العام الذي يبررها . ونعود لنجد صدى لهذه المعاني الخاصة بمفهوم الشرف منذ أوائل الفترة الإقطاعية ، فهو يعني في الوقت نفسه وظيفة أو ِرفعة ممنوحة من الملك ، وما يلازمها من امتيازات إقليمية ، والاعتبار الذي تقدمه الجماعة لمن يحوز مثل هذه التكريم . ومع تلازم هذا الوضع الاجتماعي والحيازة لممتلكات مادية يصبح الشرف شيئا يحاز وينقل ومتداولا في المجتمع ، خاصة بواسطة دور تحالفات المصاهرة ، حيث أنها حائزة لجزء من الشرف العائلي ، فيمكن أن تجلب امرأة بالزواج شرفا إلى العائلة التي تدخل فيها . إذن يمكن اقتناء الشرف عن طريق الزواج بامرأة ذات منزلة اجتماعية عالية ، وهو وضع يبدو متكررا بقدر كاف . هكذا في "مأثرة" السيد يحوز البطل الشرف بزواجه من خمينا ، قريبة الملك ، ويقول مؤلف "الملحمة" على لسان أمراء كريون الذين يتطلعون إلى خطبة بنات السيد "سنزيد شرفنا" . إن الشرف هنا ، بالفعل ، مرتبط بنساء ، بقدر نسبة الاعتبار المعزو إلى الأسرة التي ينشأن فيها أو إلى ثروة الأسرة نفسها . والفروق الدقيقة التي كانت تفصل مفهوم الشرف في الغرب عنه في الشرق وعلاقته بوضع المرأة كانت ملاحظة بشكل جيد من المعاصرين ، كما تظهره في القرن الثاني عشر ملاحظة للشامي أسامة بن منقذ . فهو يتعجب من موقف الصليبيين الفرنسيين بالنسبة لنسائهم ، وذلك عندما لاحظ أنهم غير غيورين عليهن ، فيتركون لهن حرية كبيرة في الحركة على الملأ ، ويصلون إلى حد السماح لهن بالتعري أمام الغرباء . ويمثل له هذا السلوك تناقضا مع المروءة التي يظهرونها في مسائل أخرى ، إذ أن الشجاعة ، على ما يرى ، لا تنشأ إلا بالخوف من العار.
وأكد بعض علماء الاجتماع على متانة البنى الاجتماعية ذات النوع "العربي" . كما أشير إلى العلاقات الممكنة بين تنظيم اجتماعي قبلي وبعض الثوابت التاريخية . فلنقل أن مجتمعا هكذا ، منظما في قطع مشطورة سلاليا ، يقدم امكانيات لحد ما واسعة للتشعب وإعادة التجمع طبقا للضرورات وفرص اللحظة . إنها تاريخيا مجتمعات قبلية كانت قادرة على تحقيق نجاحات سياسية بارزة مثلما يبرهن على ذلك بشكل كاف الفتح العربي ، والإمبراطوريتان المرابطية والموحدية ، حتى نقصر الحديث عن الغرب الإسلامي . يلاحظ كذلك أن الفتح العربي الإسلامي باتجاه الغرب لم يجد ، قبل أن يصطدم بالفرنجة ، أية مقاومة جدية حينما واجهته مجتمعات كانت محتفظة ، كليا أو جزئيا ، بتنظيمها القبلي القديم مثل البربر في المغرب ، وسكان كانتبريا وأشتورياش وبسقونيا في شمال إسبانيا ، وهي تجمعات بشأن مظاهر أخرى قد أظهرت منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية قدراتها على التوسع على حساب المجتمعات ذات الطابع "الاستيطاني" أو "ما قبل الإقطاعي" في عالم البحر المتوسط المترومن .
كذلك تتأكد في إسبانيا استمرارية هذه البنى ذات النوع "الشرقي" في المقام الأول على مستوى الأنساب العصائبية . في حين لم يحتفظ لنا المجتمع القوطي بشواهد على وجود الأنساب الأبوية . كما لم يسمح مبدأ الملكية الانتخابية ، مثلما هو بين الفرنسيين ، بترسيخ نسب ملكي . ويبدو من ثم بداهة أن العرب والبربر هم الذين أدخلوا نظام النسب في شبه الجزيرة في مرحلة كانت لا تعرف فيها إسبانيا ما قبل الإسلام ، كما الغرب ، أكثر من القرابة الثنائية ودون استمرارية في الزمن . وفي الأندلس يمكننا أن نتتبع بقاء أنساب عديدة من أصل شرقي أو شمال إفريقي منذ فترة الفتح . فنذكر أمثلة – من خارج الأسرة الحاكمة الأموية – في مناطق بعيدة عن بعضها البعض ، مثلا بنو تجيب في الثغر الأعلى ، الذين لم يكونوا معروفين حتى نهايات القرن الحادي عشر ؛ وبنو خلدون في اشبيلية ، أسلاف الكاتب المغربي الكبير من أهل القرن الرابع عشر ؛ وبنو خطاب في مرسية ، الذين استمروا حتى استرداد هذه المدينة في النصف الأول من القرن الثالث عشر . كما يظهر تحرير عدة كتب في الأنساب في إسبانيا ، أهمها كتاب ابن حزم ، وكذلك ما تحتويه كتب الطبقات من الأنساب العديدة ، يظهر بوضوح أن "الذاكرة الأنسابية" كانت راسخة في الأندلس بوجه خاص . كما يبرز أيضا الخط العصائبي الصارم لنظام القرابة في أن تلك البيانات الأنسابية ، رغم وفرتها عمليا ، لا تذكر مطلقا العناصر النسائية ، وإلا ما كانت دهشة مؤلف أندلسي أن يعتبر في غاية الغرابة الرأي الذي سمعه خلال رحلته إلى المشرق بأن المرأة يمكن أن تلعب دورا في نقل القرابة .
تمدنا هذه الاعتبارات ببرهان لنرفض مع أميركو كاسترو النظرية التقليدية التي طبقا لها قد لعب "الاختلاط" دورا أساسيا في الاندماج المعنوي والاجتماعي للفاتحين ، بالقدر الذي لم يكن لمثل هذا الاختلاط ، بيولوجيا فحسب ، إلا نتائج محدودة ، وذلك لقلة اهتمام عرب إسبانيا بالأصول الأمومية لشخص ما . فقد كان المنحدرون من "الزيجات المختلطة" ، التي كثيرا ما يتحدثون عنها ، يعتبرون عربا أصلاء ويتصرفون على هذا النحو. ومن السهل التحقق من ذلك من خلال مثال من خط نسب آخر ، خط نسب بني حجاج في إشبيلية ، فهم خلف لوجيه عربي من مرحلة الفتح ولحفيدة الملك القوطي قبل الأخير ، غيطشة . فمن بين المؤلفين الخمسة أو الستة الذين يحدثوننا عن تلك الأسرة ، وهم جميعا يهتمون بنسب تلك الأسرة ، يوجد مؤلف واحد يعطينا تفصيلا مهما جدا ، بشكل عرضي لحد ما ولكن من منظور "غربي" ، بسلفه الملكي من جهة الخط النسوي . ومن جهة أخرى ، نعرف بشكل جيد نشاط هذه الأسرة في اشبيلية خلال الفتنة في أواخر القرن التاسع ، حيث أننا لا نجد فيها ، وبعد مرور خمسة أجيال ، ما يسمح باكتشاف أدني إشارة على "الأسبنة" ، إلا كل ما هو عكسي ؛ فنرى فعلا بني حجاج على رأس العشائر اليمنية ، تأخذ بناصية الحركة العربية في اشبيلية وتدير مذبحة للمولدين والمستعربين . وحينما أصبح إبراهيم بن حجاج سيد اشبيلية أقام هنالك بلاطا أميريا صغيرا كان أجمل ما فيه مغنية مشتراة من المشرق بسعر باهظ ولغوي بدوي قادم من الحجاز .
يكون من المهم فحص بأي قدر مارست هذه المفاهيم العربية للنسب تأثيرا على مجتمع السكان الأصلييين ، إذ يبدو أنه ، حتى خارج كل تطور لشكل إقطاعي ، قد اكتسب "وعيا نسائبيا " وظهرت فيه الأنساب العصائبية بشكل أكثر نضجا من باقي الغرب . نعرف أن في قرطبة نفسها ، في منتصف القرن التاسع ، كان يوجد سكان أصليون يفتخرون بالانتساب إلى مجموعة أهل غيطشة ، أي من أخلاف نفس الملك القوطي الذي سهل أولاده دخول المسلمين إلى شبه الجزيرة . وقد أشرنا أيضا إلى وجود سلالة بني قسيّ المهمة في الثغر الأعلى ، ونسبهم مؤسس بشكل جيد منذ الفتح إلى أواخر القرن التاسع . ومن المؤكد أنه كانت توجد سلالات أخرى مثل بنو أنخلينو وبنو سَباريكو في اشبيلية . وكذلك من الثابت وجود جماعات ذي نسب عصائبي بين المستعربين الذين في النصف الثاني من القرن التاسع أعادوا تعمير المناطق الجنوبية من مملكة أشتورياش ليون . ويظهر متأخرا قليلا التنظيم العشائري من نفس الشكل في إسبانيا المسيحية . وكانت الأسرة الحاكمة الوحيدة الموجودة في القرن الثامن هي الأسرة التي ينحدر منها الملوك الأشتورياشيون . ففي هذه الفترة لم تكن بعد العصبية صارمة هناك ، بالرغم من أن الخلافة على العرش كانت أسرية ولم تصبح اختيارية مثلما كانت في المرحلة القوطية . وتظهر في أوائل القرن التالي ، التاسع ، سلالات ملكية أو الكونتات في نبرّا وفي دوقيات البرنيو وفي قطالونيا ، ثم على ما يبدو في القرن العاشر عندما تظهر سلالات نبيلة في الدرجات السفلى للأرستقراطية في قشتالة وفي قطالونيا . وهذا يعطي الانطباع بنضج نسبي بهذا الشأن فيما يختص بباقي أوروبا الغربية . هل يكون من المغامرة الظن بأنه ، على الأقل في حالات معينة ، كانت المفاهيم السارية في إسبانيا الإسلامية تمارس تأثيرا ما في تماسك السلالات الأبوية في الجزء الايبري الذي ظل مسيحيا ؟
نعتقد أنه من الممكن أن نجد أيضا في الأندلس أثرا من اتجاهات الزواج الداخلي في المجتمع العربي في مرحلة الفتح . وبهذا الخصوص ، فإن التباين المشار إليه سابقا بين ، من جهة ، المصاهرات العديدة نسبيا المعقودة من طرف الأسر المسلمة القليلة ذات الأصول المحلية والتي تعرفنا بها المصادر ، ومن جهة أخرى ، الغياب التام للمعلومات في نفس المصادر بخصوص مصاهرات العديد من السلالات ذوات الأصول الشرقية أو الشمال إفريقية ، يبدو في حد ذاته ذا مغزى هام . ويمكن بهذا الشأن مقارنة الإشارات التي يمدنا بها ابن حزم والعذري عن سلالتي الثغر الأعلى : بني قسي وبني تجيب . إذ يخصصان أخبارا عن هاتين الأسرتين بتوسع مماثل ، ويذكران لنا تقريبا نفس رقم الأعضاء من كل أسرة ، ولكن في حين يوردان لنا إشارات عن مصاهرات الأوَل (بني قسيّ) ، الذين كانوا من أصول محلية ، فإنهما لا يخبروننا بشيء عن الآخرين ، الذين كانوا من أصل عربي . ألا يمكن بالتالي استنتاج أن بني قسي كانوا يتبادلون بشكل عادي نساءهم مع العشائر الأخرى ، بينما كان يحجم بنو تجيب عن مثل هذه الممارسة ؟ ويمكن العثور على عنصر للتحقق من نظرية استمرار ممارسة الزواج الداخلي في الوسط العربي بإسبانيا بفحص المعلومات القليلة التي لدينا عن النساء المنتميات للأسرة الأموية الحاكمة . فأولئـك النسـاء ، اللاتي زيجاتهن معروفة لنا ، تزوجن في غالبيتهن بالطبع بأمويين ، وفي أكثر المرات بأبناء عمومتهن . ولدينا بيانات قليلة للغاية لتتبع انتشار هذه العادة في مجتمع السكان الأصليين ، ولكن نستطيع التيقن بأنها وجدت مرة أخرى في أوائل القرن الرابع عشر في أسرة مسلمة أرستقراطية بمنطقة مرسية ، وفيما بعد في مملكة غرناطة . وسنعود قليلا فيما بعد إلى الأسماء الجغرافية العشائرية المركبة مِن "بني" ، التي تبدو لنا أنها تكشف الانتشار الواسع لمثل اتجاهات الزواج الداخلي هذه في المناطق الشرقية للأندلس منذ قبل عصر ممالك الطوائف .
وبقدر ما احتفظت فيه هذه السلالات والعشائر العربية البربرية في إسبانيا بتنظيمها العصائبي القوي ونظام الزواج الداخلي يمكن التفكير بأن بقاءها كان أحسن توطيدا من العائلات المحلية ذات البناء الأقل قوة . كذلك يبدو أن شكل البنية هذا حينما تخلص من موانع نظام تبادل المصاهرات ، وهو أمر ضروري من أجل ديمومة الجماعة ، ساعد على امتداد ديموغرافي سريع . وفي المجتمع العربي التقليدي يعطي المبدأ القبلي أفضلية بالفعل ، من خلال عناصر الشرف ، إلى العدد الذي يضمن له التفوق على المجموعات المتنازعة . ويجب أيضا أن نأخذ في الحسبان ، عند تقييم هذه الإمكانات للنمو السكاني للقبائل والعشائر العربية والبربرية المستقرة في إسبانيا ، الأمر بأن وضعها المتسيد كان يسمح لها بأن تمارس على نطاق واسع تعدد الزوجات على حساب المجتمع المغلوب . ومن الملائم بهذا الشأن إثبات الممارسة التقليدية لسبي النساء في المجتمع البدوي فيما قبل الإسلام ، وفرض المغارم الباهظة في النساء على التجمعات السكانية المسودة ، وهذه كانت ممارسة مستمرة خلال غزو المغرب . وبأخذ كل هذه العوامل في الاعتبار يمكن أن نعزو بشكل مؤكد إلى الفاتحين قوة دينامية ديموغرافية وزيادة أعلى نسبيا من التي للسكان المحليين . وعلى كل حال ، فيما عدا بني قسيّ الذين ، من جهة أخرى ، اختفوا في أواخر القرن العاشر ، فإنه من المؤكد أنه لا يمكن ذكر أي سلالة محلية قد لعبت دورا هاما على مر القرون الأربعة الأولى للإسلام في الأندلس . ومع ذلك ، في النصف الثاني من القرن التاسع ، على مدى مرحلة الفتنة المضطربة ، بقي سياسيا جزء كبير من الأندلس ، لعله النصف ، في أيدي سادة أو جماعات من أصل محلي . لكن حينما سقطت الخلافة في أوائل القرن الحادي عشر وآلت السلطة إلى هؤلاء الذين في الأقاليم ، فإنهم وجدوا أنفسهم في ظرف مناسب لتوليها حيث كانوا يكونون عائلات كبيرة من أصل عربي أو بربري ، خلا في المناطق الجبلية بجنوب الأندلس وفي شرقها ، حيث استولى على الحكم موظفون وعسكريون صقالبة أو بربر حديثو الوصول من شمال أفريقية ، حيثما شكل هؤلاء جميعا الأسر الحاكمة لدول الطوائف . ولا طائل من البحث في هذا العصر بين تلك الأسر النافذة من الأرستقراطية الأندلسية عن سلالات يمكن ربطها بحق بأصل محلي .
قد يسمح المنظور الذي انتهينا من إيضاحه ، أكثر من نظرية "امتصاص" الفاتحين بواسطة المجتمع المحلي ، بأن يأخذ في الاعتبار بقاء المجموعات القبلية أو العشائرية في الأندلس على الأقل حتى أوائل القرن العاشر ، وذلك استشهادا من النصوص . ولا شك أن أقسام القبائل العربية الكبرى في فترة الفتح ، وإن استمرت في إمداد إطار التنظيم العسكري وتقديم الإشارات الخاصة بأنساب العائلات الأندلسية ، فإنها كفت ابتداء من القرن التاسع عن لعب دورا في الحياة السياسية للبلاد ، وهو الدور المرجح المعروف لها حتى حينئذ . بيد أن هذا لا يعني أن البنى القبليـّة قد انتهى وجودها . ورغم أنه قليل جدا ما تذكر القبائل خارج بعض مناطق متبربرة بالكامل مثل وادي يانه والتاخو ، ومنطقة بلنسية وجبال رندة ، فإن روايات الثورات المحلية أو الأخبار الخاصة بالحملات العسكرية المكلفة بإخضاعها تمدنا بشكل غير مباشر بمعلومات ثمينة عن التنظيم الاجتماعي لمناطق عديدة في الأندلس ، خاصة إبان فترة الحروب الأهلية في أواخر القرن التاسع . فيوجد هنا ذكر متكرر بشكل كاف لمجموعات عصابية أعلى من الأسرة الكبيرة يطلق عليها مصطلح "قوم" ، ويمكن اعتبارها كعشائر . وجدير بالذكر أنهم يشكلون شكل التنظيم الاجتماعي المألوف للعرب والبربر ، ولكن المصطلح لا يستخدم أبدا للمجموعات الاجتماعية المحلية . ويظهر بوضوح خاصة في "المقتبس" ، الذي يمثل مصدرنا الأساسي عن فترة "الفتنة" ، أن هذه "الأقوام" كانت لا تزال تشكل في أواخر القرن التاسع حقائق سياسية اجتماعية صارمة بشكل كاف لكي تلعب محليا دورا هاما خلال فترة قلاقل كانت خلالها تظهر السلطة عاجزة عن حفظ النظام .
ومباشرة في عصر الخلافة ، لم نعد نرى هذه المجموعات العصبية ، ولكن العصر المذكور لم يترك لنا تقريبا إلا وثائق خاصة فقط بأحداث البلاط والعاصمة أو السياسة الخارجية . من جهة أخرى ، فإنه القرن الذي نعمت فيه الأندلس بالسلام الداخلي ، ورسوخ تنظيم إداري مركزي ، وتوسع البـؤر العمرانية ، واقتصاد المبادلات ، وحياة ذات علاقات مكثفة ، وأخيرا انتشار الثقافة الإسلامية ، كل هذا لم يساعد على الاحتفاظ بالبنى الموروثة من التنظيم القبلي البدائي . وقد رأينا أن الإطار القبلي العربي كان في أواخر القرن العاشر من الضعف إلى درجة أن المنصور استطاع أن يعيد تنظيم الجيش بشكل مختلف كليا . وليس لهذا اختفت التنظيمات العشائرية بداهة . فقد عادت للوجود في سيادة تركيبات الأنساب التي ظلت ، كما ذكرنا من قبل ، في تصاعد ، وأيضا في العائلات الكبيرة العربية البربرية التي أخذت السلطة في العواصم الإقليمية عندما سقطت الخلافة .
وفيما يتصل بانتشار تلك البنى في جماع الهيئة الاجتماعية على الأقل في مناطق بعينها ، فإنها لا تزال على قدر كبير من الأهمية المقابلة التي يمكن تأسيسها بين هذه البنى وشكل من أسماء المواضع الجغرافية المنتشـرة في مناطق شرق وجنوب شبه جزيرة إيبريا منذ القرون الأولي للإسلام بالأندلس . والمقصود هو أسماء المواضع المبتدئة بـ "بني Beni-" ، التي بقيت في عدد مهم في المناطق الحالية بـ كاستيللون دِ لا بلانا ، وبلنسية ، وألقنت ، ومرسية ، وألمرية ، وجزر البليار . ففي محافظة ألقنت قرية من كل عشر قرى لا تزال تحمل اسما بهذا الشكل ؛ ولكن قد اختفت قرى أخرى كثيرة . مثلا الموضع الحالي لـ Valle d’Uxó ، الواقع بين سغنتو وكاستيللون دِ لا بلانا ، كان مكونا في مرحلة الاسترداد المسيحي من خمسة تجمعات أو أحياء من بينها يذكر Beniçaat ، وBenigasló ، وBenigaful . وهذه هي أسماء حقيقية لعشائر (بنو سعد ، وبنو غزلون ، وبنو غفول) يبدو أنها تشهد على استقرار مجموعات عصبية ، من المحتمل ذات نظام زواج داخلي ، في الأراضي والقرى التي تسمّت بها . وفي بنية اجتماعية ذات نمط غربي يبدو صعبا شرح مثل أسماء الأماكن الكثيرة هذه ، حيث أنه لم توجد مجموعات أبوية كافية مستقرة في ذلك الوقت حتى تفرض نفسها على موضع ما . ظن أسين بلاثيوس أن هذه الأماكن ذات أصل إقطاعي ، واعتقد أنها كانت عبارة عن فيلات villae قديمة ذات تقليد إسباني روماني موزعة بين الفاتحين العرب في مرحلة الفتح ، وأنه لثقلها الاقتصادي والاجتماعي امتصت الملكيات الصغيرة المتاخمة طبقا لعملية إقطاع مشابهة لما كان يعرف في باكر العصور الوسطى الغربية ، ويمكن أنها أخذت اسم الأسرة المسيطرة المستقرة هنالك . ولكن هذه النظرية تبدو صعبة القبول لعدة أسباب منها ، وهو السبب الأكثر أهمية ، أن المناطـق حيث تكثر فيها هذه الأسمـاء لا يبدو أنها كانت معربة عرقيا ، وأن السمات الاجتماعية الجغرافية لهذه البلدات في أكثر المرات كانت بائسة لحد ما ، ولا تكاد تتيح الظن بأن لها أصل ملكي أو إقطاعي .
ليس صعبا أن تشرح بشكل أفضل أسماء المواضع هذه في إطار إسلامي صرف ، حيث أن قواعد ميرات النساء لا تسمح بالتماثل الدائم بين سلالة عصبية وأرض . مثل هذا التوافق يمكن فقط الاحتفاظ به إذا مارست مجموعة الأقارب الزواج الداخلي الميراثي ، أو استبعدت النساء من الميراث بطريقة أو أخرى . وهي حالة توجد في أفريقيا الشمالية حيث ، فضلا عن ذلك ، يوجد هذا الشكل من أسماء الأماكن وكان قائما في العصور الوسطى . وبالتحديد في المنطقة البلنسية ، حيث تكثر أسماء الأماكن هذه بشكل خاص يثبت تلازمها المتكرر بأسماء أماكن قبلية ، والتي تشير إلى تواجد تجمع بشري بربري ملحوظ في العصر الإسلامي ، وهو تجمع تشهد عليه كذلك بعض المصادر العربية المتصلة بمرحلة عصر الإمارة . هكذا كان يوجد ، بالإضافة إلى المواضع العشائرية في Valle d’Uxóالمذكورة أعلاه ، تجمعان بشريان يحملان اسمي Zenata ، وCeneja ، اللذان لا بد أنهما يشيران إلى المجموعتين القبليتين المغربيتين الكبيرتين : زناتة وصنهاجة . هذه المقاربة في أسماء الأماكن تبين بوضوح أن الصلة بين البنى القبلية البدائية والتنظيم في عشائر عصائبية حتى مرحلة صعبة التحديد لا بد أنها طبعت المجتمع في مناطق عديدة في إسبانيا الإسلامية .
ونظرا لنقص السجلات ، فإنه يبدو صعبا الوصول بعيدا في هذا البحث بشأن البنى الاجتماعية في إسبانيا الإسلامية . ومع ذلك ، فإننا على يقين بأنه يمكن أن ندخل فكرة ذات شكل "بنائي" في واحد من هذه المظاهر القليلة السائدة ، وهذا سيحملنا إلى نتائج تختلف بقدر ملحوظ عن النظريات المعتاد تقديمها عن الطابع "الإسباني" أو "الغربي" للمجتمع الأندلسي .
وعلى ما نرى ، إن بنى اجتماعية مجلوبة من المشرق ومن شمال أفريقيا غرست بشكل راسخ في الأندلس ، وبقائها في الأوساط العربية البربرية ، وانتشارها فيما بعد في المجتمع الأصلي ، ولكن بقدر صعب التحديد ، عُدّت من العناصر المكوِّنة للمجتمـع الأندلسي . ويمكن العودة بهذا الشـأن إلى وضع المـرأة والعقليات المرتبطة بها . فقد رأينا أن سانتشيث ألبورنوث مع مؤلفين آخرين أكدوا على "الحرية" الملحوظة التي كانت تتمتع بها النساء الأندلسيات ، بالمقارنة بأخواتهن في الولايات الأخرى من العالم الإسلامي . ولا مشاحة أن وضع المرأة في الأندلس قد قدّم بالفعل عدة ملامح معينة خاصة في الميدان التشريعي ربما تعزى إلى التقليد المحلي . ومع ذلك ، ففيما يتعلق بالعادات والحياة الاجتماعية ، إذا فحصت بدون أحكام مسبقة النصوص القليلة التي تمدنا ببعض المعلومات عن وضع النساء "المتحررات" في الأندلس – مثل الكتاب الشهير "طوق الحمامة" لابن حزم – يتأكد لنا أن تلك النساء في أواخر القرن العاشر وأوائل الحادي عشر كن "حبيسات" . بالفعل كانت توجد في الأندلس ازدواجية في الوسط النسائي مماثلة لما كان يطبع المجتمع في العصر الوسيط في المناطق الأخرى المتعربة والمتأسلمة . وطبقا لـ فون غرونباوم ، كان العالم الإسلامي الوسيط يعرف بهذا الخصوص "ظروفا شبيهة للغاية بتلك التي كانت في العصور القديمة حينما كان الرجال المثقفون يقاسمون في ملاهيهم واهتماماتهم الثقافية طبقة من النساء مختلفة تماما عن اللائي يقاسمهن حياتهم الاجتماعية . وفي إسبانيا مثل أجزاء أخرى ، كانت المفاهيم القديمة لشرف النسب تفرض أن تكون النساء الحرائر مصونات عن أشكال اختـلاط الحياة الحضرية بواسطـة الحبس والحجـاب . على العكس ، الجواري السرائر ، في الغالب مغنيات وراقصات ، والذي كان دورهن يتمثل في إسعاد النساء الحرائر بوسائل محظورة ، كن يتمتعن بحرية تحرك معينة ما كانت تعرفها الأخريات ، ولكن هذه الحريـة بداهة كانت تتوقف عند حدود وضعهن التشريعي . والجزء الأعظم من الأماليح الواردة كبراهين على حرية المرأة في الأندلس تظهرهن نساء منتميات إلى مرتبة الجواري . هذا الوضع ، من ثم ، الذي يضع الجواري في المستوى الأول من المجتمع النسائي ليس خاصا فحسب بالأندلس . كان يحدث ثلاثة أرباع نفس الشيء في محيط "بلاطات" بغداد في القرن التاسع ، كما يصفها جان كلاود فاديت ، حيث الحب الذي يحكيه العباس بن الأحنف يشبه كثيرا الذي عبّر عنه شعراء عصر ملوك الطوائف . وفي نفس إسبانيا ، كما يلاحظ سانتشيث ألبورنوث من جهة أخرى ، فإن مفهوم الحب الخاضع الذي ميّز كتـّاب القرن الحادي عشر ، كان موجودا منذ أوائل القرن التاسع في أبيات شعر للأمراء الأمويين الأوَل الذي يكون صعبا للغاية إدعاء أي تأثير محلي عليهم . لذلك فالمقصود هنا مشاعر يمكن أن تشرح في إطار اجتماعي ثقافي للحضارة العربية الإسلامية دون الحاجة إلى عزوها إلى تأثيرات "غربية" أو مسيحية كما يلمح هنري بيريس .
لا يسعى هذا المقال إطلاقا إلى إغلاق النقاش عن الطبيعة "الغربية" أو "الشرقية" لحضارة الأندلس . إذ ليست بمثابة مشكلة زائفة بالقدر الذي ، على ما نعتقد أننا قد بيناه ، كانت مختلفـة بعمق البنى الخاصة بالمجتمعين القائمين في فترة فتح إسبانيا . ففي الميدان الذي وضعنا فيه الخطوط العريضة للبحث ، يظهر ان حيوية المجتمع الغازي كانت أعلى منها في المجتمع المغزو ، وأنه حتى بغض النظر عن القواعد التشريعية الاجتماعية التي فرضها الإسلام ، والمساهمات الثقافية المنقولة عن طريق هذا الدين ، فإن أشكالا اجتماعية غريبة عن المأثور المحلي غرست في شبه الجزيرة ، وانتشرت وساهمت في تحقيق الحضارة الأندلسية . وحتى الآن قد دوفع كثيرا ، وربما بمغالاة ، عن قضية "غربنة" هذه الحضارة ، فليكن مسموحا لنا بإيراد بعض الشواهد على "شرقنتها" . ومن اللازم أن نضيف أن كاتب هذه السطور مؤرخ ، وليس بتكوينه الأساسي مستشرقا ولا سوسيولوجيا ولا إثنوغرافيا . ولعله لهذا يكون أقل ملائمة مما هو ضروري لمعالجة مشكلات تقع على تخوم هذه العلوم ، ولكنه أكثر مناسبة ليطلب من المتخصصين الأكثر مرجعية الاقتراحات أو نقاط النقد التي تسمح بطرحها على وجه أفضل أو حلها بشكل أكثر إرضاء .
0 التعليقات:
إرسال تعليق