حين يريد العالم أجمع أن يشعرك بأنك مجرد عربي تافه، بلا تاريخ و لا حضارة سوى بضعة خيام في البيداء، و بضعة جمال، و بضعة أبيات من الشعر، تضيق مساحات الخيار أمامك و تكون أمام أمرين: إما أن تقبل العيش كما يريدون لك، بدون تاريخ و بدون هوية و بدون حضارة، أو أن تسعى إلى إثبات العكس تماما مع تحمل مسؤولياتك الكاملة عما سيحصل لك حتما.
و ما سيحصل يبدأ أولا بمرض خطير اسمه الاكتئاب. و من أسبابه ـ حسب ما أسهب صديقي الطبيب النفساني في شرحه ـ كثرة القراءة و الكتابة و التفكير و رسم الأهداف التي يصعب تحقيقها على أرض الواقع.
لا تتجلى خطورة المرض في المرض نفسه و إنما في تجلياته. فأنت قد تهب بغتة من فراشك على الساعة الثانية صباحا دون أن يكون هناك دافع محدد و دون أن يكون لديك هدف محدد من قيامك. و حين تقوم تندم على ما فعلته وتحاول العودة إلى الفراش. و حين تعود إلى الفراش يجافيك النوم و تجد نفسك غارقا في أسئلة ممتدة من زمن الملك قحطان إلى زمن الرؤساء و الملوك العرب الحاليين الذين يخاف أكثرهم ـ إن لم يكن كلهم ـ من السير بضعة خطوات في الظلام و لا يستأسدون إلا على الشعوب المقهورة المغلوبة على أمرها.
و يستمر المرض في الاستبداد بك فتراودك رغبة دفينة في أن تنصب مشنقتك بنفسك ما دمت على هذه الأرض مجرد عربي تافه لا يغير موته و لا حياته شيئا. ثم تنبعث فيك إرادة الحياة من جديد و أنت تنظر صباحاً إلى عيني صديقة شابة، فاتنة، و عربية هي الأخرى، تتعلق بك بكامل البراءة مثلما تتعلق طفلة بأبيها أو أخت بأخيها، و تسألك عن سبب السهاد الذي يبدو أثره في عينيك: "من تكون هذه التي تمنع النوم من عينيك؟"
يعيدك السؤال البريء، الذي لا غاية من ورائه إلا ممازحة كهولتك و المشاغبة على الشعيرات البيضاء التي أخذت تغزو شعر رأسك و شاربك، إلى تلك "التي تمنع النوم من عينيك". و عندها تجيب في داخل نفسك دون أن تتجرأ على الجهر: "إنها أمة بأكملها من الماء إلى الماء، من سبأ و حضرموت و تدمر و عاد و ثمود إلى بغداد المحتلة، و غزة الجريحة، و إلى كل الشعوب العربية التي ترزح تحت واحد من اثنين: إما الاحتلال أو الاستبداد".
هل أنا فعلا بلا تاريخ، و بلا حضارة، و لم يكن أجدادي إلا قوما رحلا، جهلة، أجلافاً، لا يعرفون شيئا حتى جاء الإسلام؟ من بنى إذن سد مأرب و جمع إليه سبعين وادياً؟ و من بنى حضرموت و سبأ و تدمر و غيرها من الممالك العربية القديمة؟
لا تجد بدا من العودة إلى حيث كنت: إلى رفوف الكتب و ركام الورق لتقرأ و تدون الملاحظات و الاستفهامات أملا في الوصول إلى إنهاء البحث لكي تقول لهم جميعا: "أنتم مخطئون تماما أيها السادة، مخطئون و أنتم تقرأون تاريخنا، و شعرنا، و حتى الدين الذي نزل بلغتنا".
ثم تنظر حواليك فتجد كثيرا من أشباه المتعلمين و أشباه المثقفين المتهافتين على إنكار أي شيء على العرب حتى و لو كان حق العربي في أن يموت بكرامته. و عندها ترى أن هؤلاء لا يستحقون الإقناع بقدر ما يستحقون الاحتقار و الازدراء و اللامبالاة. و تحاول أن تنسى ـ أو تتناسى ـ فتترك الكتب و تشغل التلفاز و إذا بصور القتل و التدمير تهاجمك حيثما وليت طبق الالتقاط: إما قتل أميركي هوليودي على القنوات المتخصصة في أفلام الحركة، حيث الأميركي ينط شمالا و يمينا وسط الرصاص و الشظايا دون أن يصاب (فقط لأنه أميركي!)، أو قتل أميركي بالأباتشي و البلاك هوك و الشينهوك و غيرها من وسائل القتل التي يعملها فينا الأميركي و هو محصن داخل دبابته أو داخل طائرته. و مرة أخرى تقفز إلى ذهنك صور قديمة: سيف ياباني صقيل كانت أناملك تتلهى به يوما ما في مشهد بهلواني بينما المتفرجون يضعون أيديهم على قلوبهم خوفا من أن يروا ساقك مبتورة أو رقبتك مقطوعة. و تتحسر على هذا الزمن الأميركي الرديء الذي أصبح القتال فيه يتم بلوحة مفاتيح، و تتمنى لو يعود الناس إلى زمن السيف لترى إن كان بإمكان هذا الأميركي فعلاً أن يفلت من ضرباتك السريعة المحكمة (أو التي كانت بالأحرى كذلك في زمن ما!!!) تتمنى لو عاد الناس ـ على الأقل ـ إلى ما قبل الحرب العالمية حيث لم يكن لسلاح الجو وجود لترى إن كان بإمكان هذا الأميركي السوبرمان فعلا أن يفلت من طلقتك المصوبة إلى القلب أو الرأس. و دون أن تشعر تجد أن شعر رأسك قد أضحى مثل أسلاك الكهرباء، و أن عضلاتك أضحت مشدودة، و أن وجيب قلبك يزداد و العرق يتصبب من جبينك، و لا تجد أمامك إلا مضادات الاكتئاب مرة أخرى و تعليمات الطبيب الذي يريد أن يحولك من رجل إلى كتكوت رومي يصحو بمقدار و ينام بمقدار، و لا ينبغي أن ينزعج على الإطلاق.
و فجأة ـ في عز الليل و بين أشعار العرب ـ تهتدي إلى حل أقوم: ما دمت في المغرب، أكثر بلدان العالم العربي حرية و انفتاحا، فلماذا لا تفعل كما يفعل عامة المغاربة حين يتعبون؟ لماذا لا ترمي بكل الأدوية جانبا و تذهب إلى حانة من حانات الدار البيضاء (وما أكثرها) لتعاقر نبيذا مغربيا أحمر، و تأكل ما شاء الله لك أن تأكل من أسماك و شواء؟
تدخل الحانة فتداهمك أغنية قديمة من الزمن الجميل يصدح فيها صوت المرحوم بوجميع: "يا بني الإنسان! لاش الكروب لاش الأحزان؟ لاش الحروب لاش الطغيان؟ و احنا خاوة و احنا جيران؟".
تعيدك الأغنية إلى مغرب السبعينيات، و يأتيك النادل بالقنينة الأولى من نبيذك الأحمر و معها صحن من السمك الطري المقلي. تصب في جوفك الكأس الأولى، و الثانية، و الثالثة، قبل أن تأكل سمكة.ثم تشعل سيجارة و تصب كأسا أخرى. و ما تكاد تشرب نصف القنينة حتى تحس بأن جسدك قد انتعش، و أن وجنتيك قد احمرتا، و أن التوتر قد اختفى تماما.
تنهي القنينة الأولى و تطلب أخرى فيحضرها النادل بسرعة معززة بمزيد من الأسماك المغربية الطرية.تصب منها الكأس الأولى و تلتهم ربع ما في الصحن من أسماك قبل أن تشرب كأسا ثانية. و فجأة تصبح الدنيا جميلة و تجد نفسك بين الخدود و القدود فتراودك الرغبة. لكنك تتذكر أن الزمن أيضا زمن الأيدز و أنك رجل متزوج و أب و أن الشيب بدأ يغزو رأسك. و عندها تقرر أن تشرب ما تبقى في القنينة بسرعة و تغادر الحانة. إلى أين؟ إلى حيث كنت بين الكتب و الأوراق و شاشة الحاسوب. لكنك حين تصل لا تفكر في كتاب و لا في ورقة و إنما في قنينة ثالثة من النبيذ المغربي الأحمر. من أين تحضرها في هذا الوقت المتأخر؟
ليس هذا سؤال مغربي شاطر. فما أمامك إلا أن تشير إلى سيارة أجرة تقلك مقابل أربعة دراهم فقط إلى حيث ذلك الرجل الذي يبيع الخمور من نافذة بيته.
تشتري قنينة ثالثة و تعود أدراجك. تدخل الغرفة التي حولتها إلى مكتب و تغلق عليك الباب ثم تفتح القنينة و الميسنجر في لحظة واحدة لتجد صديقتك الشابة، الفاتنة، ما تزال هي الأخرى من الساهرين و تبادر بالكتابة إليك بفرنسيتها الرقيقة:
ـ أين كنت يا عزيزي إلى هذا الوقت؟
ـ لماذا تسألين؟ هل تزوجتك دون أن أشعر؟
ـ ليتك فعلت.
ـ ليتني فعلت؟ أتريدين أن أساق إلى محكمة الأسرة؟
ـ لا تخف. سأعرف كيف أقنع زوجتك بأن من الضروري أن نتقاسمك.
ـ قبل ذلك ينبغي أولا أن تقنعي نفسك.
ـ بماذا؟
ـ بأنك مجنونة. لماذا تتزوجين كهلا مثلي و مئات الشبان يركضون وراءك؟
ـ الكهولة و الشيخوخة و الشباب في القلب لا في الجسد.
ـ حسنا. ما دام الأمر كذلك لدي حل جيد.
ـ ما هو؟
ـ تزوجي قلبي و اتركي جسدي رحمك الله.
تضحك صديقتك بطريقتها المعهودة التي تكتب بها ضحكتها على نافذة الميسنجر و يعود الحديث بينكما إلى أصله، إلى براءته، إلى تلقائيته، فتشعر أنك محظوظ لأن لديك صديقة شابة، جميلة، ذكية، تقطر رقة و أدبا بلغة موليير كما بلغة امرئ القيس، و يتردد في داخلك صوت شاعر العرب الأكبر، الراحل محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة!".
تطلب منك صديقتك الجميلة أن تحدثها صوتيا فتعتذر و تصارحها بأنك شربت كثيرا و أنك لا تريد التحدث إليها و أنت سكران. لكنها تصر و تكتب بفرنسيتها الأنيقة:
ـ أريد أن أسمعك و أنت سكران.
ـ لماذا؟
ـ لأن الخمر تقول الحقيقة.
ـ و أية حقيقة تريدين أن تعرفي؟
ـ عدد الفتيات اللائي غازلتهن و أنت سكران.
ـ تغارين إلى هذا الحد؟
ـ نعم.
ـ حسنا. في المرة القادمة حين أسكر تعالي لأغازلك أنت أيضا.
ـ كم أنت متخلف؟ لماذا تنتظر حتى المرة القادمة؟ حدثني الآن و غازلني ما دمت سكرانا.
ـ سأحدثك لكني لن أغازلك.
ـ لماذا؟ ألا أعجبك؟
ـ ليس هذا هو السبب. لقد استنفذت قاموس الغزل مع كل النساء اللائي صادفتهن في الطريق وأنا سكران.
و تفتح خط المحادثة لتجد صديقتك تقهقه في جوف الليل و تقول إنها توشك أن تستلقي على قفاها من شدة الضحك فتسأل نفسك: "لماذا أنا وحدي الذي عليه أن يشعر بالمسؤولية تجاه الناس و التاريخ والله؟ لماذا لا أضحك أنا أيضا ـ كما كنت دائما ـ إلى أن أستلقي على قفاي أو يستلقي قفاي علي؟"
و في الدقائق الأولى من المحادثة تحكي لك صديقتك آخر نكتة سمعتها فتضحك حتى تدمع عيناك، و تتحدثان ساعة و ما يزيد، ثم تودعها و تذهب لتنام. و في الطريق إلى الفراش تستوقفك علب مضادات الاكتئاب. تنظر إليها ساخرا و تقرر أن تضعها في المكان الذي تستحقه فعلا. تفرغ كل الحبوب في كفيك و تتجه إلى المرحاض لتلقي بكل الحبوب و تتبعها تيارا جارفا من الماء...إلى غير رجعة!!!
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة!"
و على هذه الأرض من يستحق الحياة!!!
0 التعليقات:
إرسال تعليق